هل الملايين من العرب محبطون من كثرة الهزائم أمام الخارج والداخل؟ هل
الحرائق تشتعل في فلسطين والعراق واليمن والسودان والصومال، بل وفي كل
الأرض العربية، فلا تجد من يطفئها وإنما العكس، فهي تجد من يبقي على
إشتعالها بمزيد من الحطب والزيت؟
هل القضية الفلسطينية تلفظ أنفاسها واستعدادات غسلها وتكفينها ودفنها تجري
على قدم وساق في واشنطن وتل أبيب والكثير من عواصم أوروبا وبلاد العرب؟ هل
يشعر الإنسان العربي صباح كل يوم برغبة جامحة في البكاء أو في الدخول في
غيبوبة النسيان أو حتى في الموت بعد أن وصلت آلامه ومعاناته ومشاعره بالذل
والهوان ويأسه من اية بارقة أمل إلى المستوى الذي لايطاق والحدًّة التي
بشرياً لا تحتمل؟
الوضع العربي المأزوم لايمكن التعامل معه إلاُ بتلك الصورة التراجيدية
الدرامية. والنظرة الحيادية الباردة لذلك الوضع المتردٍّي بوتيرة مذهلة لم
تعد ممكنة. والقضية ليست معرفة وتحليل ما يجري، فلقد مرًّ قرن ونحن نفعل
ذلك، وإنما القضية هي تواجد الشعور القوي الوجودي الرافض لما يجري.
ولذلك فالمطلوب هو تجييش تلك الشُّحنات الشعورية لتصبح تياراً متدفًّقاً
من العمل والتغيير والتجديد في واقع وصل إلى مرحلة الخطر الكبير بسبب قدرة
الخارج الهائلة على تدمير مكوناته الثقافية والقومية والحياتية وقدرة
الداخل على إفساده وإضعاف حيويًّته وقدرة إناسه على التفرٌج عليه وهو
يحتضر معتقدين أن الزمن كفيل بحلٍّّّّ الورطة التي يحيونها.
من هنا لنطرح السؤال الآتي: هل يريد هذا الإنسان العربي، المهموم، المحبط،
الضائع، المتباكي، المقترب من الإنفجار والخروج من التاريخ الإنساني... هل
يريد أن يخرج من هذا الجحيم، من هذه الورطة، من أودية الضًّياع والتٍّيه
التي فيها يهيم على وجهه؟
إذا كانت الإجابة بنعم، والنفس مستعدُّة لتطهير نفسها ودفع الثمن لسيرورة
التطهير تلك، وإذا كان الشًّبع من النًّظر إلى الأرض كالدجاج الذي يفتٍّش
عن الدود والفتات قد وصل إلى مداه... فان في الأرض العربية، الآن وفي هذه
اللحظة، من يحاولون رسم طريق ترك عيش الدجاج ذاك إلى التحليق في أجواء
النسور، وكسر جدار الشًّرنقة التي يعيشها المواطن العربي كقزم إلى حرية
الحركة والنمو.
فبعد مخاض طويل استمر أربعين سنة، منذ التراجع المذهل للزًّخم الناصري
بموت ملهم وقائده، وبعد محاولات محدودة شتًّى غير موفًّقة من هنا وهناك،
تبدو بوادر رجوع مبشٍّر وواعد للمظلًّة الجامعة الكبرى، لرابطة العروبة
القادرة على القفز فوق كل الانتماءات الفرعية من طائفية وقبلية وعرقية
وتخطٍّي مسألة تجزئة النضال العربي.
ودون ذكر للأسماء، فهناك محاولة بناء حزب قومي طليعي عربي ديمقراطي وهناك
محاولة تكوين حركة تحررية قومية ديمقراطية واحدة. وبمعنى آخر القفز فوق
الإعتماد التام على العمل القطري المنغلق على نفسه بعد أن أثبت فشله في
مجابهة معضلات الأمة المشتركة المفصليًّة الكبرى، وفي الوقت نفسه تجديد
روح العمل العروبي الواحد الذي يقفز فوق حدود التجزئة إلى رحاب الوطن
العربي كلٍّّّّّّّّّّّّه، وذلك بعد أن عادت الروح إلى الوعي العروبي
الجامع لطاقات الأمة كلٍّها. إنها محاولات لمشاركة الآخرين في الساحة
السياسية وهي رجوع لثوابت الأمة في وحدتها وحريتها وديمقراطيتها السياسية
والاقتصادية وعدالة توزيع ثرواتها وتوقها للنهوض والتجديد والإبداع. وهي
لا تتعارض على الإطلاق مع العمل الوطني المحلي، بل ترفده وتدعمه وتتناغم
معه.
المواطن العربي، كفرد أو كعضو في تنظيم وطني، والذي يطرح على نفسه كل يوم
سؤال ما العمل؟ يستطيع أن يفتٍّش عن الذين يطرحون تلك المبادرات وينضم إلى
ما يراه الأفضل والأجدى أو يتناغم مع جهود هؤلاء المبادرين والطليعيين
لتكوين تيًّار واحد أو شبكة متداخلة متراصًّة. ولا يجوز بعد اليوم
الاستمرار في شلل النٌّواح الذي لا يتبعه عمل جاد يخرج الأفراد والمجتمعات
في أرض العرب من الكارثة التي نعيشها في كل لحظة.
لقد نادينا عبر السنين بضرورة قيام جبهة عريضة من القوميين والإسلاميين
واليساريين والليبراليين والمستقلين العرب للدفاع عن الأمة التي تغرق
وتهمًّش. وها هي محاولات لبناء نواة صلبة تجتمع حولها كل الفئات تطرح في
الساحة. وستكون كارثة لو سمحنا لهذه الفرصة أن تضيع كما ضاعت فرص غيرها.