بدأت الأمم المتحدة بمصافحات أيدٍ، تحدوها آمالٌ عِراضٌ في تحقيق الحلم، الذي طالما راود المجتمع الدولي، بالاتحاد لمنع الحروب، وحل مشكلات العالم بطريقة سلمية. إلا أنه، وبعد مرور ما يزيد عن نصف قرن على إنشاء المنظمة الدولية، بدا أن هناك تبايناً كبيراً في وجهات النظر، حول ما آلت إليه هذه المنظمة، وفي مدى نجاحها في تحقيق الهدف، الذي قامت من أجله.
عديد من الآراء، ترى أن الأمم المتحدة، ما هي إلا رجل البوليس المكلف، بتحقيق السلم والأمن العالميين. غير أنها لم تكن مؤثرة، في هذا السياق، على الدوام. وجهات نظر أخرى تُبَوِّئُ الأمم المتحدة منزلة الحكومة العالمية، التي تتدخل، في كثير من الأحيان، في شؤون حكومات الدول الأعضاء، بما قد يعقد الأمور أحياناً. إلا أن كثيراً من المحللين السياسيين، يرون أن الأمم المتحدة، تقوم بدورها الحقيقي، بوصفها منظمة عالمية تنشر السلام، وتقوم بحل النزاعات بطريقة سلمية.
وعلى الرغم من كل هذا التباين، وكل هذه الانتقادات، صارت الأمم المتحدة، في عصرنا هذا، واقعاً مرئياً يقتحم علينا عالمنا السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، واقعاً صامداً بين عالم مليء بالمتناقضات السياسية، وتعدد القوى والمصالح والأهواء. ومن بين نجاح وفشل، وتقارب وتباعد وتجاذب وتنافر، اتفق العالم، بكل تكتلاته السياسية، وأهوائه، وأيديولوجياته الفكرية، على ضرورة بقاء الأمم المتحدة، إن لم تكن بوصفها أداة حسم في إيقاف الحروب الدامية، وفض الاشتباكات، وحل المنازعات، فبوصفها رمزاً للأمل، وللسلام القائم على العدل، ولنصرة المغلوب على أمره، وصوتاً يعلو فوق صوت أسلحة الدمار.
أولاً: الأمم المتحدة "مدخل تاريخي":
يعجب الناظر في تاريخ العلاقات الدولية من كثرة الحروب، التي نَشِبَتْ بين الدول. هذه الحروب التي جلبت الموت، والخراب، والدمار، على ملايين البشر، على مدى عصور متطاولة. ويشتد العجب حينما نجد المنتصر، في زهوه وخيلائه، يتفاخر بالدمار الذي أوقعه بعدوه المنهزم، ويزهو بأَنْ دمر آلته العسكرية، وحطم منازل الأبرياء، وانتهك دور العبادة، ومناهل الثقافة. ويحتار الدارس، حين يجد أن معظم هذه الحروب، كان من الممكن تفاديها، والحيلولة دونها، بالحلول السلمية التي تكفل الكرامة لكل جانب. لماذا، إذن، حاربت الدول بعضها بعضاً؟ الإجابة تكمن في تضارب المصالح، بين القوى المتحاربة، وتباين وجهات نظرها في تفسير الأحداث، وعدم السعي إلى تفاهم عادل، بدلاً من دق طبول الحرب.
وكان المفكرون، والفلاسفة، والمُحَنَّكُون، من الساسة، من أمثال: بيير ديبوا، ودانتي، وايراسموس، وكروشيه، أول من نادى بتكوين هيئة عالمية، تعرض فيها الدول وجهات نظرها في النزاع، بطريقة سلمية متحضرة، وعلى أساسٍ من احترام القانون. على أن يتضمن الرجوع إليها تعهداً بالخضوع لحكمها، على أي وجه كان. ويذكر التاريخ للمفكرين المسلمين، الفارابي، والكواكبي، دعوتيهما إلى فكرة تجميع شعوب العالم كله، تحت قيادة واحدة، ولا بأس أن تكون هذه القيادة على هيئة رئاسة جماعية.
وفي الواقع، بدأت دول العالم تأخذ خطوات حثيثة، لإيجاد صيغ للتعاون فيما بينها، منذ أمد بعيد. ففي القرن التاسع عشر، أقيمت المؤتمرات العالمية، لفض النزاعات، وللاتفاق على صيغة، تنظم المصالح الدولية المتعارضة. وبناءً على توصيات هذه المؤتمرات، أنشئت عديد من الاتحادات الدولية، مثل: اتحاد التلغراف الدولي (اتفاقية باريس في 17 مايو 1865)، واتحاد البريد العام (اتفاقية برلين في 10 أكتوبر 1874)، والاتحاد الدولي لحماية الملكية الصناعية (اتفاقية برن في 9 سبتمبر 1886)، وهيئة الإذاعة الدولية (اتفاقية روما في 7 يونيه 1903)، والاتحاد الدولي للتعريفة الجمركية (اتفاقية بروكسل في 5 يونيه 1890)، ومكتب الصحة الدولي (اتفاقية باريس في 9 ديسمبر 1907). كما أنشئت هيئة التحكيم الدولية (عرفت فيما بعد باسم: محكمة العدل الدولية)، بناءً على توصيات مؤتمر عقد في هولندا عام 1899.
وعلى الرغم من قصور هذه المؤتمرات والمنظمات، ومحدوديتها آنذاك، فإنها تُعَدّ اللبنات الأولى في مشروع إنشاء عصبة الأمم، ثم منظمة الأمم المتحدة بعد ذلك.
ثانياً: عصبة الأمم League of Nations
في يناير عام 1918، وبعد مرور ما يقرب من أربعة أعوام من القتال المرير في الحرب العالمية الأولى، تقدم الرئيس الأمريكي "ويلسون" (اُنظر صورة وودر ويلسون) بورقة ضَمَّنَها مجموعة من الآليات والمقترحات، لإحلال السلام العالمي، وقد بلغت هذه المقترحات 14 مقترحاً. ودعا في المقترح الرابع عشر إلى إنشاء رابطة أممية لدعم السلام، وحمايته، وردع الدول المعتدية. وبالفعل، وفي 11 نوفمبر 1918، وقعت حكومات الدول المتحاربة، آنذاك، هدنة لوقف إطلاق النار. ثم تلا ذلك الإعداد لمؤتمر السلام، في باريس، عام 1919 (اُنظر صورة معاهدة فرساي).
واستمرت المحادثات، التي اشتركت فيها وفود 32 دولة، في قصر فرساي، بالقرب من باريس، قرابة 6 أشهر، ورأس الوفد الأمريكي، آنذاك، الرئيس "ويلسون"؛ إذ أسهم، إلى حد كبير، في إخراج معاهدة فرساي، في صورتها النهائية. وقد تم التوقيع على معاهدة فرساي في 28 يونيه 1919، ثم أصبحت سارية المفعول في 10 يناير 1920. وتضمن البند الأول من المعاهدة الموافقة، لأول مرة، على إنشاء عصبة الأمم (اُنظر صورة اجتماع عصبة الأمم). إلا أن الغريب في الأمر، أن مجلس الشيوخ الأمريكي، آنذاك، رفض التصديق على المعاهدة، على الرغم من أن فكرة إنشاء العصبة كانت ترجع في المقام الأول إلى الرئيس الأمريكي "ويلسون".
وهكذا أنشئت عصبة الأمم دون أن تنضم إليها الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن جهود الرئيس "ويلسون"، في هذا الصدد، قوبلت بالتقدير اللائق بها، في وقت لاحق، حين حصل على جائزة نوبل للسلام لعام 1919، تقديراً لجهوده المتميزة في دعم السلام العالمي.
وقد بلغ عدد الأعضاء الأصليين للعصبة 42 دولة، ثم انضم إليهم عدد آخر، حتى بلغ عدد الأعضاء في بعض الأوقات إلى 58 دولة، من بينها دولتان عربيتان، هما: مصر، والعراق. وقد تنازع العصبةَ عند إنشائها تياران؛ أحدهما: أخلاقي مثالي غذته مبادئ الرئيس ويلسون، والآخر: واقعي، تزعمته الدول الأوروبية، بقيادة بريطانيا وفرنسا. ويطالب هذا التيار بأن تكون العصبة إطاراً قوياً لنظام الأمن الجماعي العالمي، والأوروبي، على وجه الخصوص. تحمي ما أفرزته معاهدة فرساي التي أمعنت في فرض شروط المنتصر على المنهزم، واستهدفت إدامة تعجيزه في النظام الجديد.
وقد بدأت المبادئ المثالية للعصبة تتهاوى بشدة، عندما تعرضت لأول اختبار حقيقي، وحدث ذلك حينما احتلت إيطاليا الحبشة في 5 مايو عام 1936، غير أن الدول الأوروبية لم تقم بواجبها برفض الاحتلال، وغضت الطرف عن التجاوزات الإيطالية وتخاذلت عن نصرة مبادئ العصبة، وغلبت ـ في الوقت نفسه ـ مبادئ السياسات الأوروبية المشبعة بالمصالح والأهواء الاستيطانية، أملاً في كسب إيطاليا إلى صفها في مواجهة ألمانيا النازية الصاعدة بقوة وإلحاح إلى سماء السياسة العالمية. لكن هذه السياسة المتخاذلة تجاه إيطاليا أصيبت بلطمة شديدة أطاحت بكل حساباتها، عندما انضمت إيطاليا إلى ألمانيا واليابان في محور الحرب العالمية الثانية التي وقعت بعد ما يقرب من عشرين عاماً على إنشاء عصبة الأمم. وأفرزت هذه التجربة المحبطة أسباباً قوية تشكك في قدرة عصبة الأمم على حفظ السلم والأمن الدولييْن، الأمر الذي دعا إلى التفكير جدياً في إيجاد منظمة بديلة، تتلافى عيوب العصبة. وفي الواقع كانت هناك أسباب سياسية واقتصادية أخرى عديدة، تدفع إلى التخلص من عصبة الأمم؛ فقد خُوِّلَت العصبة اختصاصاتٍ واسعةً في المجال السياسي، ومجال التعاون الدولي؛ إذ كانت تختص بفض المنازعات بالطرق السلمية، وتشرف على برامج خفض التسلح، وتتخذ كل الإجراءات اللازمة لرد أي عدوان على دولة عضو، كما خُوِّلَت آليات توثيق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، بين الدول، والإشراف على إدارة بعض الأقاليم، والنهوض بها، ومع ذلك بدت السلطات الفعلية للعصبة متهافتة جداً. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أهمها:
1. عدم امتلاك عصبة الأمم ـ طبقاً لعهدها وتحت تأثير الاتجاه الأنجلو ـ سكسوني ـ سلطات حقيقية، تتناسب مع حجم المهام المنوطة بها، وكذا مع ما كانت تتمتع به من مساندة الرأي العام العالمي، وتضامنه معها.
2. استوجب كل ما صدر عن العصبة، ولو في صورة توصية، إجماع كل الدول الأعضاء، الأمر الذي أخضعها لأهواء الدول الكبرى ورغباتها الذاتية، بما أدى إلى تهافت حركة العصبة، وضعف تأثيرها.
3. لم ينص عهد العصبة صراحة على تحريم الحرب تحريماً مطلقاً.
4. أن الإجراءات الجماعية التي كانت تتخذها العصبة ضد الدولة المعتدية في حالة الحرب، لم تكن كافية، سواء أكانت إجراءات اقتصادية أم عسكرية، كما أن التدخل كان يأتي متأخراً في كثير من الأحيان.
5. لم تنجح عصبة الأمم في تحقيق صفة العالمية، ذلك أنها لم تضم، في أي وقت من الأوقات، كل دول العالم. كما ظل الطابع الأوروبي غالباً عليها. ففي السنوات الأولى، استبعد أعضاؤها المؤسسون ـ بناءً على رغبة الحلفاء المنتصرين ـ الدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى، كما ظل نشاط العصبة محروماً من مشاركة الدول الكبرى، إذ رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاشتراك فيها، ولم ينضم الاتحاد السوفيتي إلا عام 1934، وتم فصله عام 1939 بسبب اعتدائه على فنلندا، وانسحبت ألمانيا واليابان عام 1933، ثم تلتهما إيطاليا عام 1937. بما أدى إلى عدم تعاون هذه الدول في حالات اتخاذ إجراءات جماعية ضد دولة عضو.
وقد تفاعلت جميع هذه الأسباب بعضها مع بعض، لتقوم بتكبيل المنظمة بعدد من القيود جعلتها عاجزة عن حل عديد من النزاعات التي تحدث في العالم، الأمر الذي دفع دولاً أخرى إلى الانسحاب من المنظمة، أو الامتناع عن الإسهام في نشاطها.
هذا، فضلاً عن تهاون العصبة في الرقابة على تنفيذ برامج تحديد التسلح، بما أدى إلى زيادة تسلح بعض الدول، بصورة أخلت كثيراً بتوازن القوى في العالم.
وعلى الرغم من إخفاق "عصبة الأمم" في تحقيق معظم أهدافها، نجحت - من وجه آخر - في إفراز عديد من المبادئ الهامة التي مهدت الطريق لإقامة هيئة عالمية، عملت على أن تأخذ بكثير من المبادئ التي أقرتها عصبة الأمم، وأن تتلافى - في الوقت نفسه - أوجه القصور التي عانت منها. فكانت "هيئة الأمم المتحدة" "United Nations"، التي أُعلن عنها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في 26 يونيه 1945. وفي الفترة من 8 إلى 18 أبريل سنة 1946، عقدت الجمعية العامة لعصبة الأمم آخر دورة لها (الدورة الحادية والعشرين) في جنيف، وأُعلن في نهايتها عن تصفية عصبة الأمم رسمياً، وقررت جمعيتها العامة أن تؤول أموالها وممتلكاتها إلى الهيئة البديلة "هيئة الأمم المتحدة".
عديد من الآراء، ترى أن الأمم المتحدة، ما هي إلا رجل البوليس المكلف، بتحقيق السلم والأمن العالميين. غير أنها لم تكن مؤثرة، في هذا السياق، على الدوام. وجهات نظر أخرى تُبَوِّئُ الأمم المتحدة منزلة الحكومة العالمية، التي تتدخل، في كثير من الأحيان، في شؤون حكومات الدول الأعضاء، بما قد يعقد الأمور أحياناً. إلا أن كثيراً من المحللين السياسيين، يرون أن الأمم المتحدة، تقوم بدورها الحقيقي، بوصفها منظمة عالمية تنشر السلام، وتقوم بحل النزاعات بطريقة سلمية.
وعلى الرغم من كل هذا التباين، وكل هذه الانتقادات، صارت الأمم المتحدة، في عصرنا هذا، واقعاً مرئياً يقتحم علينا عالمنا السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، واقعاً صامداً بين عالم مليء بالمتناقضات السياسية، وتعدد القوى والمصالح والأهواء. ومن بين نجاح وفشل، وتقارب وتباعد وتجاذب وتنافر، اتفق العالم، بكل تكتلاته السياسية، وأهوائه، وأيديولوجياته الفكرية، على ضرورة بقاء الأمم المتحدة، إن لم تكن بوصفها أداة حسم في إيقاف الحروب الدامية، وفض الاشتباكات، وحل المنازعات، فبوصفها رمزاً للأمل، وللسلام القائم على العدل، ولنصرة المغلوب على أمره، وصوتاً يعلو فوق صوت أسلحة الدمار.
أولاً: الأمم المتحدة "مدخل تاريخي":
يعجب الناظر في تاريخ العلاقات الدولية من كثرة الحروب، التي نَشِبَتْ بين الدول. هذه الحروب التي جلبت الموت، والخراب، والدمار، على ملايين البشر، على مدى عصور متطاولة. ويشتد العجب حينما نجد المنتصر، في زهوه وخيلائه، يتفاخر بالدمار الذي أوقعه بعدوه المنهزم، ويزهو بأَنْ دمر آلته العسكرية، وحطم منازل الأبرياء، وانتهك دور العبادة، ومناهل الثقافة. ويحتار الدارس، حين يجد أن معظم هذه الحروب، كان من الممكن تفاديها، والحيلولة دونها، بالحلول السلمية التي تكفل الكرامة لكل جانب. لماذا، إذن، حاربت الدول بعضها بعضاً؟ الإجابة تكمن في تضارب المصالح، بين القوى المتحاربة، وتباين وجهات نظرها في تفسير الأحداث، وعدم السعي إلى تفاهم عادل، بدلاً من دق طبول الحرب.
وكان المفكرون، والفلاسفة، والمُحَنَّكُون، من الساسة، من أمثال: بيير ديبوا، ودانتي، وايراسموس، وكروشيه، أول من نادى بتكوين هيئة عالمية، تعرض فيها الدول وجهات نظرها في النزاع، بطريقة سلمية متحضرة، وعلى أساسٍ من احترام القانون. على أن يتضمن الرجوع إليها تعهداً بالخضوع لحكمها، على أي وجه كان. ويذكر التاريخ للمفكرين المسلمين، الفارابي، والكواكبي، دعوتيهما إلى فكرة تجميع شعوب العالم كله، تحت قيادة واحدة، ولا بأس أن تكون هذه القيادة على هيئة رئاسة جماعية.
وفي الواقع، بدأت دول العالم تأخذ خطوات حثيثة، لإيجاد صيغ للتعاون فيما بينها، منذ أمد بعيد. ففي القرن التاسع عشر، أقيمت المؤتمرات العالمية، لفض النزاعات، وللاتفاق على صيغة، تنظم المصالح الدولية المتعارضة. وبناءً على توصيات هذه المؤتمرات، أنشئت عديد من الاتحادات الدولية، مثل: اتحاد التلغراف الدولي (اتفاقية باريس في 17 مايو 1865)، واتحاد البريد العام (اتفاقية برلين في 10 أكتوبر 1874)، والاتحاد الدولي لحماية الملكية الصناعية (اتفاقية برن في 9 سبتمبر 1886)، وهيئة الإذاعة الدولية (اتفاقية روما في 7 يونيه 1903)، والاتحاد الدولي للتعريفة الجمركية (اتفاقية بروكسل في 5 يونيه 1890)، ومكتب الصحة الدولي (اتفاقية باريس في 9 ديسمبر 1907). كما أنشئت هيئة التحكيم الدولية (عرفت فيما بعد باسم: محكمة العدل الدولية)، بناءً على توصيات مؤتمر عقد في هولندا عام 1899.
وعلى الرغم من قصور هذه المؤتمرات والمنظمات، ومحدوديتها آنذاك، فإنها تُعَدّ اللبنات الأولى في مشروع إنشاء عصبة الأمم، ثم منظمة الأمم المتحدة بعد ذلك.
ثانياً: عصبة الأمم League of Nations
في يناير عام 1918، وبعد مرور ما يقرب من أربعة أعوام من القتال المرير في الحرب العالمية الأولى، تقدم الرئيس الأمريكي "ويلسون" (اُنظر صورة وودر ويلسون) بورقة ضَمَّنَها مجموعة من الآليات والمقترحات، لإحلال السلام العالمي، وقد بلغت هذه المقترحات 14 مقترحاً. ودعا في المقترح الرابع عشر إلى إنشاء رابطة أممية لدعم السلام، وحمايته، وردع الدول المعتدية. وبالفعل، وفي 11 نوفمبر 1918، وقعت حكومات الدول المتحاربة، آنذاك، هدنة لوقف إطلاق النار. ثم تلا ذلك الإعداد لمؤتمر السلام، في باريس، عام 1919 (اُنظر صورة معاهدة فرساي).
واستمرت المحادثات، التي اشتركت فيها وفود 32 دولة، في قصر فرساي، بالقرب من باريس، قرابة 6 أشهر، ورأس الوفد الأمريكي، آنذاك، الرئيس "ويلسون"؛ إذ أسهم، إلى حد كبير، في إخراج معاهدة فرساي، في صورتها النهائية. وقد تم التوقيع على معاهدة فرساي في 28 يونيه 1919، ثم أصبحت سارية المفعول في 10 يناير 1920. وتضمن البند الأول من المعاهدة الموافقة، لأول مرة، على إنشاء عصبة الأمم (اُنظر صورة اجتماع عصبة الأمم). إلا أن الغريب في الأمر، أن مجلس الشيوخ الأمريكي، آنذاك، رفض التصديق على المعاهدة، على الرغم من أن فكرة إنشاء العصبة كانت ترجع في المقام الأول إلى الرئيس الأمريكي "ويلسون".
وهكذا أنشئت عصبة الأمم دون أن تنضم إليها الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن جهود الرئيس "ويلسون"، في هذا الصدد، قوبلت بالتقدير اللائق بها، في وقت لاحق، حين حصل على جائزة نوبل للسلام لعام 1919، تقديراً لجهوده المتميزة في دعم السلام العالمي.
وقد بلغ عدد الأعضاء الأصليين للعصبة 42 دولة، ثم انضم إليهم عدد آخر، حتى بلغ عدد الأعضاء في بعض الأوقات إلى 58 دولة، من بينها دولتان عربيتان، هما: مصر، والعراق. وقد تنازع العصبةَ عند إنشائها تياران؛ أحدهما: أخلاقي مثالي غذته مبادئ الرئيس ويلسون، والآخر: واقعي، تزعمته الدول الأوروبية، بقيادة بريطانيا وفرنسا. ويطالب هذا التيار بأن تكون العصبة إطاراً قوياً لنظام الأمن الجماعي العالمي، والأوروبي، على وجه الخصوص. تحمي ما أفرزته معاهدة فرساي التي أمعنت في فرض شروط المنتصر على المنهزم، واستهدفت إدامة تعجيزه في النظام الجديد.
وقد بدأت المبادئ المثالية للعصبة تتهاوى بشدة، عندما تعرضت لأول اختبار حقيقي، وحدث ذلك حينما احتلت إيطاليا الحبشة في 5 مايو عام 1936، غير أن الدول الأوروبية لم تقم بواجبها برفض الاحتلال، وغضت الطرف عن التجاوزات الإيطالية وتخاذلت عن نصرة مبادئ العصبة، وغلبت ـ في الوقت نفسه ـ مبادئ السياسات الأوروبية المشبعة بالمصالح والأهواء الاستيطانية، أملاً في كسب إيطاليا إلى صفها في مواجهة ألمانيا النازية الصاعدة بقوة وإلحاح إلى سماء السياسة العالمية. لكن هذه السياسة المتخاذلة تجاه إيطاليا أصيبت بلطمة شديدة أطاحت بكل حساباتها، عندما انضمت إيطاليا إلى ألمانيا واليابان في محور الحرب العالمية الثانية التي وقعت بعد ما يقرب من عشرين عاماً على إنشاء عصبة الأمم. وأفرزت هذه التجربة المحبطة أسباباً قوية تشكك في قدرة عصبة الأمم على حفظ السلم والأمن الدولييْن، الأمر الذي دعا إلى التفكير جدياً في إيجاد منظمة بديلة، تتلافى عيوب العصبة. وفي الواقع كانت هناك أسباب سياسية واقتصادية أخرى عديدة، تدفع إلى التخلص من عصبة الأمم؛ فقد خُوِّلَت العصبة اختصاصاتٍ واسعةً في المجال السياسي، ومجال التعاون الدولي؛ إذ كانت تختص بفض المنازعات بالطرق السلمية، وتشرف على برامج خفض التسلح، وتتخذ كل الإجراءات اللازمة لرد أي عدوان على دولة عضو، كما خُوِّلَت آليات توثيق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، بين الدول، والإشراف على إدارة بعض الأقاليم، والنهوض بها، ومع ذلك بدت السلطات الفعلية للعصبة متهافتة جداً. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أهمها:
1. عدم امتلاك عصبة الأمم ـ طبقاً لعهدها وتحت تأثير الاتجاه الأنجلو ـ سكسوني ـ سلطات حقيقية، تتناسب مع حجم المهام المنوطة بها، وكذا مع ما كانت تتمتع به من مساندة الرأي العام العالمي، وتضامنه معها.
2. استوجب كل ما صدر عن العصبة، ولو في صورة توصية، إجماع كل الدول الأعضاء، الأمر الذي أخضعها لأهواء الدول الكبرى ورغباتها الذاتية، بما أدى إلى تهافت حركة العصبة، وضعف تأثيرها.
3. لم ينص عهد العصبة صراحة على تحريم الحرب تحريماً مطلقاً.
4. أن الإجراءات الجماعية التي كانت تتخذها العصبة ضد الدولة المعتدية في حالة الحرب، لم تكن كافية، سواء أكانت إجراءات اقتصادية أم عسكرية، كما أن التدخل كان يأتي متأخراً في كثير من الأحيان.
5. لم تنجح عصبة الأمم في تحقيق صفة العالمية، ذلك أنها لم تضم، في أي وقت من الأوقات، كل دول العالم. كما ظل الطابع الأوروبي غالباً عليها. ففي السنوات الأولى، استبعد أعضاؤها المؤسسون ـ بناءً على رغبة الحلفاء المنتصرين ـ الدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى، كما ظل نشاط العصبة محروماً من مشاركة الدول الكبرى، إذ رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاشتراك فيها، ولم ينضم الاتحاد السوفيتي إلا عام 1934، وتم فصله عام 1939 بسبب اعتدائه على فنلندا، وانسحبت ألمانيا واليابان عام 1933، ثم تلتهما إيطاليا عام 1937. بما أدى إلى عدم تعاون هذه الدول في حالات اتخاذ إجراءات جماعية ضد دولة عضو.
وقد تفاعلت جميع هذه الأسباب بعضها مع بعض، لتقوم بتكبيل المنظمة بعدد من القيود جعلتها عاجزة عن حل عديد من النزاعات التي تحدث في العالم، الأمر الذي دفع دولاً أخرى إلى الانسحاب من المنظمة، أو الامتناع عن الإسهام في نشاطها.
هذا، فضلاً عن تهاون العصبة في الرقابة على تنفيذ برامج تحديد التسلح، بما أدى إلى زيادة تسلح بعض الدول، بصورة أخلت كثيراً بتوازن القوى في العالم.
وعلى الرغم من إخفاق "عصبة الأمم" في تحقيق معظم أهدافها، نجحت - من وجه آخر - في إفراز عديد من المبادئ الهامة التي مهدت الطريق لإقامة هيئة عالمية، عملت على أن تأخذ بكثير من المبادئ التي أقرتها عصبة الأمم، وأن تتلافى - في الوقت نفسه - أوجه القصور التي عانت منها. فكانت "هيئة الأمم المتحدة" "United Nations"، التي أُعلن عنها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في 26 يونيه 1945. وفي الفترة من 8 إلى 18 أبريل سنة 1946، عقدت الجمعية العامة لعصبة الأمم آخر دورة لها (الدورة الحادية والعشرين) في جنيف، وأُعلن في نهايتها عن تصفية عصبة الأمم رسمياً، وقررت جمعيتها العامة أن تؤول أموالها وممتلكاتها إلى الهيئة البديلة "هيئة الأمم المتحدة".