العناية بالمعوق فرض عين على من تجب عليه كفالته، وفرض كفاية على المسلمين..
العناية بالمعاق والقيام بأمره من فروض الكفايات على الأمة إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين وإذا لم يقم به أحد كان الجميع آثمين.
فكفالة العميان، والصم، والمشلولين، وسائر المعاقين واجب على مجموع الأمة، كما هو واجبهم نحو الفقراء والمساكين والمعوزين، فكما يجب على الأمة والجماعة سد حاجات هؤلاء يجب علينا كذلك سد حاجات ذوي هذه العاهات وإلا كان الجميع آثمين..
ولا شك أن واجب العناية بكل فرد منهم تقع أولاً على من أناط به الإسلام كفالته، وهم الأصول والفروع.. فالآباء كافلون لأبنائهم لأنهم فروعهم، والأبناء كافلون لآبائهم لأنهم أصولهم، والأقارب، والأرحام يجب أن يكفل بعضهم بعضاً فكما يتوارثون فإنهم يتكافلون...
وعلى كل مسلم أن يقوم بما أوجبه الله عليه في ذلك. ويجب على الأمة والجماعة المسلمة مساعدة كافل العاجز والقائم بشأنه، وخاصة إذا عجز عن كفالته، والقيام بشأنه وخاصة من يحتاجون ويعتمدون في كل شؤونهم على غيرهم كالمشلول شللاً كاملاً الذي يحتاج إلى غيره في طعامه وشرابه، وطهوره، ولباسه وشأنه كله فإن عبء هذا عظيم وثقله كبير على من حوله.
* وهذه بعض واجبات الجماعة، وفروض الكفاية نحو المعاق:
1) وجوب مواساته، وتذكيره بالصبر، وعدم الجزع على ما فاته، والعمل على إصلاح ما يمكن أن يكون قد تهدم من نفسه، وانهد من كيانه فإن العاهة والإصابة تصيب النفس قبل أن تصيب البدن، وهدم النفس أبلغ من تهديم البدن، وقد يحصل مع تحطيم النفس زوال الإيمان، وتمكن الشك، ووجود السخط على الله،، وبغض قضائه وقـدره، وهذا كفر يحطم النفس، ويزيل الإيمان، ومن وصل إلى ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة عياذاً بالله سبحانه وتعالى..
والابتلاء قد يدفع كذلك إلى الجزع، وعدم الصبر، وقد يؤدي إلى الانتحار، أو العزلة والانهيار، وهذا كله بوار وخسران للدنيا والآخرة..
ولا شك أن السعي إلى إصلاح البدن، وتكميل النقص، وإعادة التأهيل للجسم دون النفس عمل قاصر، بل هو من ضلال السعي، لأن الدنيا لا تغني عن الآخرة هذا، لو اكتملت، وزانت فكيف والمعاق ربما تكون إعاقته قد حرمته جميع طيباتها من الصحة والمشي والرياضة، والاعتماد على النفس، والتمتع بمباهجها في الطعـام والشراب، والنكاح، والسباحة، والذي فقد هذا كله أو أكثره يصبح من ضلال السعي معه أن يعاد تأهيل ما تبقى من جسمه، وإهمال روحه وذاته وقلبه وإيمانه!!
ولذلك فإن أول واجبات الجماعة والأمة نحو المصاب بإعاقة تحجب عنه طيب الحياة، ومتعة الوجود هو تأهيل قلبه وإيمانه لتلقي الصدمة، والرضا بقضاء الله وقدره، والأمل فيما ادخره الله لعباده الصابرين، وتحقير أمر الدنيا، وأن متاعها قليل، وأيامها معدودة، وأن ما عند الله خير وأبقى.
ويجب أن يكون هذا تذكيراً مستمراً من أجل تثبيت المصاب، وربط قلبه بالله والدار الآخرة.
2) والواجب الثاني هو تأهيل هذا المصاب ليستفيد من بقية ما أبقىالله له من القوى، وتفجير ما لديه من طاقـات، فإن يداً واحدةً مدربة قد تعمل عمل اليدين، والأعرج الذي يفجر طاقاته قد يأتي بما لا يستطيعه صاحب القدمين، ورب أعمى فقد البصر كان له من وعي القلب، وحدة الفهم، ورهافة السمع ما يجعله أكثر بصراً من كثير من ذوي العينين، ورب إنسان فقد القدرة على الاستمتاع بالنساء وجد في متعة العلم والقراءة، وحلاوة الإيمان حلاوةً ولـذةً لا يجدها من يتزوج كل يوم من الحسان، ورب منقطع إلى عبادة الله وذكره يجد من حلاوة الإيمان ما يجعله يقول وهو رهين المحبسين السجن والعمى "إننا في لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"..
والخلاصة أنه يجب إعادة تأهيل المعاق والمصاب في بدنه ليبلغ غاية ما يمكنه من الاستقلال بنفسه، والاعتمـاد عليها في طعامه وشرابه، وطهوره، وحاجاته الأساسية ما أمكن ذلك... وهذا بالتدريب والتعليم، وكذلك بالآلة.. وقد ذكرنا أنه توفر للناس في وقتنا الحاضر من أساليب تعليم الصم، والبكم والعميان، والمتخلفين عقليا ما يعوضهم عن فقد هذه المنافذ والمدركات...
وكذلك قد تيسر من الوسائل المساعدة كالكراسي المتحركة، والرافعات، والأثاث المناسب للمعاق ما يجعـل المصاب بالشلل أعظم قدرة على القيام بخدمة نفسه... وحتى المصاب بالشلل الكامل لأطرافه كلها يوجد له من الأجهزة اليوم ما يساعده في الاعتماد على كثير من أمر نفسه..
إن تأهيل المصاب بتعليمه وتدريبه، وتيسير الوسيلة المناسبة له واجب كفائي على الأمـة، وهو كذلك باب من أبواب الخير والإحسان يجب أن تتنافس المنظمات الخيرية الأهلية، والمؤسسات الحكومية العامة في تحقيقه للمعاق...
وخاصة أن برامج التأهيل قد تكون لبعض المرضى باهظة التكاليف، وكذلك بعض الأجهزة الخاصة لا يقدر عليها ذوو المرضى بأنفسهم، فالصرف من المال العام على هؤلاء، وإعطاؤهم من الزكاة والصدقات لهذا الأمر حق واجب.
3) الواجب الثالث على الأمة وجوب إشراك هؤلاء المعاقين في الحياة العامة، وعدم عزلهم عن المجتمع والناس، وهذا يحقق منافع عظيمة:
أ) تكريم المصاب من المجتمع، وإشراكه في الحياة العامة كمساعدته لحضور الصلوات، وخاصة الجمع والأعياد،ودعوته في دعوات الأفراح والطعام وحضوره مجالس الناس ومنتدياتهم، وزيارة الناس له في منزله، كل هذا فيه شفاء لنفس المريض، وبرءٌ لروحه، وهذا يساعد في إعادة تأهيله نفسياً وجسدياً.
ب) رؤية المعافى للمصاب يكسبه مجموعة عظيمة من الفضائل تكلمنا عنها في الفصل الرابع.
ج) إن رؤية كلٍّ من المصاب للمعافى، والمعافى للمصاب، وتذكير كل منهما لما أوجبه الله سبحـانه وتعالى عليه، فيه مجال عظيم للبر والإحسان والخير، بل وسعادة النفس فسلامك على مصاب والدعاء له، وأخذك بيد أعمى ودلالته، وحملك ضعيفاً على دابته، وكلمة طيبة من المواسـاة يسمعها مبتلي منك، كل هذا من أبواب الخير، وكل هذا يمكن أن يحرم منه المسلمون لو أن كل مصابٍ أغلق عليه بابهُ، ولم يُسمح له أن يـرى الناس أو يرونه، أو جمعوا في نادٍ واحد أو مكان واحد لا يرون إلا أنفسهم، ولا يحس بهم غيرهم، وهذا كله من الفساد في الأرض...
وللأسف أن كثيراً من أهالي المصابين والمعاقين ممن حرموا الخير والأجر بل والرحمة يتبرءون من أولادهم، وفلذات أكبادهم المصابين أو يتنكرون لآبائهم وأمهاتهم فيسجلونهم في معاهد التأهيل، أو دور العجزة، والرعاية بغير أسمائهم الحقيقية حتى لا ينسبون إليهم، ويستحيون أن يقال عنهم أن لهـم ولداً معاقاً، أو أباً مشلولاً، ومثل هؤلاء حرِيٌّ بهم أن يحرمهم الله رحمته في الدنيا والآخرة.
* وجود المعاق في الأمة بركة ونصر وخير:
وجود المعاق بين المسلمين بركة ونصر وخير ؛ فهو باب من أبواب رحمة الله بعباده، فبهم ينتصر المسلمون ويرْزقون، وبالإحسان إليهم والرحمة بهم، يرحم الله عباده. ويعظم لهم الأجر والثواب...
فوجود الفقير رحمة للغني لأن إحسان الغني تهذيب لنفس الغني وتطهير لماله، ورفع لدرجته عند الله... فلولا وجـود الفقير لما زكت نفس الغني، ولما تطهر ماله، ولما وجد باباً عظيماً إلى الجنة، ولما نودي يوم القيامة من باب الصدقة أن تعال أيها المتصدق وادخل من هنا... فهل يكره العاقل من يكون سبب فلاحه ونجاحه وصلاحه؟! فهل يكره وجود الفقير إلا كافر جاهل يقول كما قال أسلافه عندما دُعُوا للإنفاق على الفقراء: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}!!
قال تعالى: {وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكـم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين}!! (يس:47)، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى هو القـادر على أن يجعل عباده جميعاً أغنياء ولكن حكمته اقتضت وجود الغني والفقير ابتلاءاً لهذا بالغنى، وابتلاءاً لذلك بالفقـر، فالغني يبتلى ليشكر، ويحسن إلى من أمره الله بالإحسان إليه فتزكو نفسه، ويتخلق بالرحمة والشفقة، ويخرج من دائرة البخل والشح، ويتصف بالكرم والإحسان، وهذا تزكية لنفسه وكذلك يزكو ماله، وينمو {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (البقرة:276) وكذلك يكون له باب عظيم للأجر والثواب فلو عرف الغني ماذا يعني وجود الفقير بالنسبة إليه لبحث عنه في كل مكان ولأحبه من كل قلبه لأنه سبب لرحمته، ورفع منزلته، وصلاح لنفسه لرحمته وكذلك يبتلي بعض عباده بالفقر ليصبروا ويتخلقوا بالتواضع، ويرغبوا فيما عند الله ويبتعدوا عن الحسد والحقد...
ووجود الضعفاء والمساكين والمعاقين في المجتمع المسلم رحمةٌ عظيمةٌ، فهم باب عظيم من أبواب الخير يفتحه الله لعباده ليكون هناك تنافس في البر بهم، والإحسان إليهم ومساعدتهم، وليكون مرآهم تذكيراً بالله، وقدرته على عباده، وأن له الحكمة التامة، والحجة البالغة، وليكون دعاء هؤلاء الضعفاء رحمة ونصراً وعزاً للمسلمين؛ فإن دعاءهم مستجاب عند الله. فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم] (رواه أبو داود 2335، وصححه الألباني في الصحيحة 779)