مفهوم القومية العربية
الاستاذ الشهيد عزالدين سليم (ره)
وردتنا بعض الأسئلة عن موقف الإسلام من القومية العربية والدعوة لإقامة كيان سياسي للعرب على أساسها، وقد جاءت هذه الأسئلة مرفقة بأوراق كتبها بعض القوميين محاولين فيها بيان عدم تعارض القومية العربية مع الإسلام ونظمه. والرسالة على ما فيها من غموض وتشويش نلخصها فيما يلي:
>قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال: هل هناك تعارض بين القومية العربية بمعناها العلمي الدقيق والشعور الإسلامي الصحيح؟
الجواب على هذا السؤال:
>عرفت الأوراق حقيقة القومية العربية بأنها فكرة سياسية اجتماعية ترمي بالدرجة الأولى إلى توحيد (كل!) جماعة متجانسة من البشر وخضوعها لنظام سياسي واحد، وأن مفهوم القومية العربية الحديثة لا يقوم على أساس الدم مطلقاً وإنما يقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا..
أما اللغة فلا ينكر أحد بأن للعرب لغة قبل وجود الإسلام تمتاز عن جميع لغات العالم الأخرى ولا يزالون محتفظين بها إلى الآن.
وأما لعادات والسجايا فقد اشتهر العرب بعاداتهم الحسنة التي لا تخلو من سيئات، وجاء الإسلام فأحدث ثورة عارمة داخل العرب فوحد كيانهم المبعثر ونظمهم وتناول اللغة فقدم لها ضماناً في فوحد كيانهم المبعثر ونظمهم وتناول اللغة فقدم لها ضماناً في القرآن كما تناول العادات والسجايا فوطد العادات الحسنة ومحق العادات السيئة، وبذلك كان تاريخ العرب بعد الإسلام أكثر نضجاً وأعضم شأناً، وهذا يدلنا على أن الإسلام بروحه وطد عناصر القومية ولم ينكرها. فالقومية الحقة لا يمكن أن تناقض الدين إذ ليست في جوهرها الا حركة روحانية ترمي إلى بعث قوى الأمة الداخلية وتحقيق قابلياتها العقلية والنفسية.. ومما يؤيد انسجام القومية العربية مع الإسلام أمور:
1ـ اهتمام القومية العربية بدرس الإسلام وتفهم حقيقته وتاريخه وتقديسها ذكرى النبي2.
2 ـ ان العرب هم بمثابة العمود الفقري للإسلام فهم المخاطبون الأولون بآيات التنزيل وهم أول من حمل راية الإسلام ودافع عنها.
3 ـ ان النبي كان يعتز بالاتحاد القومي كاعتزازه بحلف الفضول وهو الحلف الذي تعاقدت فيه بطون قريش على نصرة المظلوم حتى يؤدى إليه حقه حيث قال2 >ما أحب إن لي بحلف حضرته من جدعان حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت<.
4 ـ صحة إطلاق لفظ المسلم على القومي المعتز بقوميته، فلو كان هناك تنافٍ بين القومية العربية والإسلام لما صح ذلك. كما لا يصح إطلاق لفظ الديمقراطي على الدكتاتوري ولفظ المسلم على الملحد لوجود التنافي بينهما.
كما ان الأسباب التي نشأت منها فكرة تناقض القومية العربية مع الإسلام هي:
1 ـ المفهوم الاستعماري الخبيث عن الإسلام حيث حاول الاستعمار الغربي ان يطبع الإسلام بطابع الدين الكنسي في القرون الوسطى، ذلك الدين الضيق الذي كان يقاوم مع كل شيء في الحياة ومع كل فترة جديدة اجتماعية وعلمية، مع ان الإسلام دين واسع رحب لأنه نظام اجتماعي وفلسفة حياتية وقواعد اقتصادية ونظام للحكم بالاضافة إلى كونه عقيدة دينية بالمعنى الغربي الضيق.
2 ـ المفهوم الشعوبي عند العرب حيث نشأ في تاريخ الإسلام في القرن الرابع الهجري لبعض الشعوبيين الذين كانوا يستهدفون النيل من العرب والاستهانة بأمجادهم وتاريخهم.
وقد تؤاخذ القومية العربية بدعوتها إلى توحيد خصوص البلاد العربية دون الدعوة إلى توحيد البلاد الإسلامية، ولكن توحيد البلاد الإسلامية أمر غير عملي في الوقت الحاضر لأسباب عديدة بعضها جغرافي وبعضها سياسي وبعضها اجتماعي.. وعلى فرض توحيدها فان توحيد الأجزاء التي تتكلم لغة واحدة وتتذوق أدباً واحداً ويجمعها تاريخ واحد ألزم وأولى ,أقرب إلى الواقع المحسوس. فمن غير الطبيعي ان ننتظر اتحاد العراق مع إيران والأفغان قبل أن يتحد مع سوريا والأردن.. وعلى هذا فالدعوة إلى توحيد العرب هي الخطوة العملية التي ينبغي أن تسبق أية دعوة إلى الوحدة الإسلامية وأخيراً؛ فإن القومية العربية ليست لها نوايا عدوانية أو استعلائية على غيرها من القوميات تلك النوايا التي لا تقرها الأديان بصورة عامة والإسلام بصورة خاصة وخلاصة القول انه ليس هناك تعارض أساسي واضح بين القومية العربية والإسلام وأقرب ما يمكن أن توصف العلاقة بينهما انها علاقة عموم وخصوص، ومن يريد أن يعتقد بنبل أهداف حركتنا القومية والاتجاه السياسي فيها فليراجع الميثاق القومي ففيه الدلالة الواضحة على ذلك.<
هذه هي خلاصة الأوراق المرفقة مع دعوى عدم مناقصة القومية العربية مع الإسلام. والظاهر إن هذه الأوراق لم تنشأ من قبل كاتبها على الورق ولذا فهي مشوشة فكرياً، ويتضح ذلك بمراجعة كتاب >من روح الإسلام< >فإن أكثر ما كتب في الأوراق مأخوذ منه كما ان فيها تناقضاً بيناً أثرناه في هذه الخلاصة:
ونحن هنا نحاول أن نجيب على جميع ما ذكر مسن البراهين والأدلة، على عدم تنافي القومية العربية مع الإسلام، كل ذلك على نحو الاختصار، ونترك التفصيل إلى رسالة خاصة تكتب في هذا الموضوع إن شاء الله.
والبحث عن القومية العربية له جانبان فإنه تارة يبحث عن القومية العربية من الناحية الموضوعية ومدى وجود الوحدات الأربع: التاريخ، اللغة، العادات، السجايا، في واقعها وحقيقتها. وأخرى يكون البحث عنها من ناحية رأى الإسلام فيها كدين يتبناه أكثر العرب ويهمنا استطلاع رأيه فيها.
أما عن الناحية الأولى فمن الثابت تاريخياً عدم قيام وحدة لغوية بين البلاد العربية قبل الإسلام وإنما كان بعض البلاد يتكلمون بلغة لا تفهمها البلاد الأخرى مطلقاً؛ فقد كان الشعب المصري (شعب مصر) وكذلك شعب الشام يتكلمون بلغة لا يفهمها شعب الحجاز أبداً، ووحدة اللغة العربية بين هذه الشعوب إنما جاءت بعد الإسلام وشموله لهذه الأفكار. بل من الثابت تاريخياً ان أهل اليمن وهم عرب قبل الإسلام بلا ريب كانوا يتكلمون لغة لا يفهمها أحد من عرب اليوم مطلقاً، كما دلت كثير من الحفريات وعرب اليوم إنما يتكلمون بلغة أهل الحجاز فقط وذلك بفضل القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم. وأما وحدة التاريخ، فتاريخ العرب كان مختلفاً اختلافاً بعيداً بعضه عن البعض الآخر؛ فلم يكن تاريخ عرب العراق متفقاً مع تاريخ عرب اليمن، بل ولا مشتركاً معه ببعض الحوادث قبل الإسلام. وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع البلدان العربية الأخرى فقد كان العراق يخضع لسلطان الفرس ومتأثراً بحضارتهم، كما كان عرب الشام خاضعين لسلطان الروم ومتأثرين بحضارتهم، والبون شاسع بين تاريخ فارس والرومان. كما إن كلاً من الحضارتين تختلف عن الحضارة الأخرى ولا يحتاج بيان الاختلاف بحسب التاريخ بين البلاد العربية إلى مزيد بيان فأن أقل مراجعة إلى تاريخ العرب قبل الإسلام تغنينا عن ذلك تماماً.
كما انه لم يثبت تاريخيا وجود وحدة بين القبائل العربية بحسب العادات والسجايا قبل الإسلام، ذلك ان التاريخ لم يتعرض لحياة الشعوب العربية آنذاك وإنما تعرض لقصص بعض رجال العرب كأمور يستحقون عليها الذكر فليس الكرم المنقول عن بعض رجال العرب أو الشجاعة أو غير ذلك من الصفات الحميدة عادة وسجية لكل العرب ورجالهم أو للكثرة الكاثرة منهم، كما انها ليست عادة وسجية مختصة بالعرب وحدهم، وليس هناك أي دليل تاريخي على ذلك فالعادات والسجايا الحسنة التي نعتز بها اليوم انما جاء بها الإسلام وتطبع بها المسلمون عرباً وغير عرب فإذا كان أساسالتجانس الذي تقوم عليه القومية العربية هو هذه الوحدات الأربع فهي ليست موجودة ولا قائمة بين العرب قبل الإسلام أصلاً ولا دليل يشير إلى ذلك بل الأدلة التاريخية في كثير من الحالات تثبت العكس.
ثم إن القومية العربية لما كانت فكرة قائمة على أساس الاحساس والشعور العاطفي لا على أساس الفكر والمنطق لم تكن فكرة صالحة لأن يقوم عليها الكيان السياسي وتحدد بموجبها العلاقات بين الأفراد والجماعات، ولم تكن تضمن حياة سعيدة هانئة لأمة كاملة، ولذا نرى إن جميع الدعوات القومية ترتكز في إقامة كيانها السياسي على مبدأ أو أفكار ليس لها علاقة بهذا الشعور العاطفي مطلقاً ولا تنبثق من صميمه وكيانه. فتارة تتبنى الحركة القومية الاشتراكية وأخرى الرأسمالية كنظم اقتصادية والدكتاتورية تارة والديمقراطية أخرى كنظم سياسية وهكذا فهي دائماً وأبداً تكون عالة على غيرها في إقامة كيانها الذي تدعو إلى بعثه وتكوينه.
هذا من الناحية الموضوعية. وأما من ناحية وجهة نظر الإسلام فيها فالشيء الذي لا بد أن نشير إليه هو ان مفهوم القومية العربية مفهوم حديث بدأ يدب في العرب من جراء الغزو الفكري للمستعمر الكافر للبلاد الإسلامية العربية وأصبح واسع الانتشار بعد الغزو العسكري المسلح تأثراً من العرب بالمفاهيم الغربية الخبيثة في الحياة والكون وهو بذلك لم يتبلور حتى الآن بصورة نهائية متفق عليها. غير ان الشيء الذي لا شك فيه هو ان القومية العربية بكل المفاهيم السياسية التي أعطيت لها تتعارض مع الإسلام. أما المفهوم غير السياسي للقومية العربية الذي يعني الشعور بعاطفة الحب والتقدير تجاه العرب وتقديمهم على غيرهم من أصحاب القوميات الأخرى في المعاملات والتصرفات الشخصية فهو شيء لا يعارض الإسلام ولا ينافيه، وشأن هذه العاطفة شأن جميع العواطف الأخرى التي تنشأ من المفاهيم الاقليمية والقبلية والأسرية والتي تعني الشعور بعاطفة الحب تجاه سكنة الاقليم الخاص او اتجاه القبيلة الخاصة أيضاً فان جميع ذلك لا يمنعه الإسلام، وإن كان الإسلام يريد من المسلم الكامل أن لا تكون هذه العواطف مقياساً له حتى في هذه التصرفات الشخصية وان يكون مقياسه في ذلك كله الورع والتقوى لأن هذا المقياس هو المقياس الأكمل الذي وضعه الله تعالى واختاره لعباده وأخذ على نفسه أن يعاملهم به في مجالات الإكرام والتقدير قال تعالى }إن أكرمكم عند الله أتقاكم{.
نعم لما كانت مفاهيم القومية العربية غير متبلورة حتى الآن بصورة نهائية كان لا بد لنا أن نستعرض أوسع هذه المفاهيم انتشاراً ونبين مدى التعارض بينها وبين الإسلام، وأهم هذه المفاهيم المفاهيم مفهومان: الأول المفهوم الذي أعطاه رجال البعث العربي متأثرين فيه بمنطق هيجل التطوري أو بالأخرى فلسفة ماركس في التاريخ وهم بذلك يحاولون أن يسبغوا عليهم الصبغة الفلسفية والصبغة العقائدية ليمدوه بروح تمكنه من أن يعيش مدة أطول في حياة الشعوب العربية. وهذا المفهوم هو ان القومية العربية ليست فكرة وإنما واقع الأمة العربية، وهذا الواقع يتطور بمرور الزمن عليه متأثراً بالظروف المختلفة التي تمر به، والأحداث الداخلية والخارجية التي تلاقيه. وهي تقتضي في كل ظرف وزمان شكلاً من الحكم والنظام تفرضه المرحلة التي يمر بها ذلك الواقع فليس ذلك النظام إلا حدثاً من الأحداث الحتمية التي تنبع من الواقع وتنبثق منه. والإسلام بدوره لم يكن إلا مظهراً واحداً من مظاهر تطور هذا الواقع للأمة العربية آنذاك. ولما كان ذلك الواقع قد تطور بمرور الزمن فنظامه بدوره لا بد أن يتطور ويكون شكلاً آخر، فواقع الأمة يفرض نظاماً وشكلاً من الحكم يختلف تماماً عما كان يفترض منه في تلك الفترة، أي يختلف تماماً عن نظام الإسلام نفسه. وإن ما يفرضه واقع الأمة العربية اليوم إنما هو النظام الديمقراطي أمراً يرجع إلى المرحلة نفسها وشيئاً يفرضه تطور واقع الأمة العربية وليس أمراً ناشئاً من عجز القومية العربية وحدها عن إقامة الكيان السياسي. ولسنا الآن بصدد بيان وإيضاح فساد الفلسفة التطورية المزعومة لأن ذلك شيء مرهون بوقته كما نبهنا على ذلك في البحث، وإنما نحن الآن بصدد بيان معارضة هذا المفهوم للدين الإسلامي الذي نتبناه ونعمل لأجله، والتناقض بين هذا المفهوم للقومية العربية والإسلام شيء واضح جلي وذلك:
أولاً: إن الإسلام لا يكون على هذا التفسير للقومية العربية ديناً سماوياً أنزله الله على نبيه محمد2 وإنما يكون مظهراً حتمياً لواقع الأمة العربية. فلس هناك نبوة ووحي أو غير ذلك من الأمور التي هي من ضروريات دين الإسلام ومقوماته، ما دام الإسلام شيئاً منبثقاً من واقع الأمة العربية وأمراً يفرضه ذلك الواقع.
وثانياً: إن هذا المفهوم قد اعتبر الإسلام علاجاً مؤقتاً لفترة معينة من حياة الأمة العربية وتذهب فائدة هذا العلاج بعد تطور واقع الأمة العربية إلى مرحلة أخرى من مراحل تطورها، وليس الإسلام إلا رسالة خالدة على مر الزمن كما صرح بذلك نبيه العظيم محمد2 كما جاء في الخبر (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة) كما إن إجماع العلماء علماء الإسلام ـ على ذلك، بل يعتبر خلود رسالة الإسلام ضرورياً من ضروريات الإسلام. وقد ذكر هذا التفسير في الإسلام ما يوافق هذه المرحلة أيضاً من تطور واقع الأمة وذلك الشيء هو روح الإسلام المتمثلة في العدالة والحرية والمساواة ونحن بتبنينا للاشتراكية أخذنا الإسلام بروحه وجوهره وطرحنا ما هو من قشره ولبابه. فقد عرى هذا التفسير الإسلام عن كل أحكامه وتشريعاته لأن تلك التشريعات لم تكن إلا لمرحلة خاصة من تطور الأمة.
والإسلام لا يؤمن بهذا التفسير العريان له وإنما يعتبر ذلك تشويهاً وإيماناً ببعضه وكفراً ببعضه الآخر. }أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض{ فمتى كان الإسلام روحاً بلا جسم وعقيدة بلا نظام ومعانٍ متتالية بلا تطبيق وعمل؟! وملاحظة القرآن الكريم والسنة النبوية تغنينا عن الإطالة في الكلام، فقد جاء القرآن مشرعاً في كبار الأمور وصغارها وموعداً ومنذراً كل من تعدى ذلك إلى غيره مشدداً في أتباع أوامره ونواهيه.
وهذا التفسير للقومية العربية هو التفسير المنتشر بين قادتها ومفكريها وقد أخذناه من كتاب (مع القومية العربية) لحامد الجبوري والحكم وروزه، وهو كتاب لا يشك أي مسلم عند مطالعته بمناقضة القومية العربية للدين الإسلامي وإنما تستهدف هدم كيانه وأبعاد الأمة عن واقعه وحقيقته. كما قد امتلأ الكتاب بالاضاليل والدعاوى العجبيبة عن الإسلام وتاريخه محاولاً بذلك أسدال الستار المظلم على دور الإسلام في التاريخ والفتوحات.
والمفهوم الثاني عن القومية العربية: هو ما جاءت به الأوراق آنفة الذكر حيث قالت >فالقومية فكرة سياسية اجتماعية ترمي بالدرجة الأولى إلى توجية كل جماعة متجانسة من البشر وخضوعها لنظام سياسي واحد، وإن مفهوم القومية العربية الحديثة لا يقوم على أساس الدم مطلقاً وإنما يقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا >ونأخذ كل فقرة من هذه الفقرات الأربع لنرى رأى الإسلام فيها.. وهل أقر شيئاً من هذه الميزات الأربع ليكون ذلك إقراراً منه للقومية العربية أو إنه إزالها ووحد بين جميع القوميات فيه. وبلا شك إنه بناء على فكرة القومية العربية لا بد أن يكون العالم الإنساني منقسماً إلى عدة قوميات ولكل واحدة من هذه القوميات هذه الميزات الأربع وباختلاف هذه الميزات تختلف القوميات فليس في العالم القومية العربية فقط وإنما فيه القومية التركية والفارسية والكردية وهكذا... وكل واحدة من هذه القوميات تقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا وإذا كان الأمر كذلك فما رأى الإسلام في هذه الفوارق والمميزات التي تقوم على أساس القوميات وتختلف فيها فيما بينها باختلاف هذه المميزات؟
ونبدأ بالعادات والسجايا أولاً: لقد جاء الإسلام ـ كما تقول الأوراق ـ فطهر عادات وسجايا العرب فوطد العادات الحسنة ومحق العادات السيئة، فهل كان ذلك من الإسلام مختصاً بعادات وسجايا القومية العربية فقط أو إنه شامل ومتناول لكل العادات والسجايا حتى عادات وسجايا القوميات الأخرى التي تختلف بمجموعها عن عادات وسجايا القومية العربية؟ فان الجواب لا يخلو من أحد هذين الفرضين. فلا بد أن يكون الفرض الثاني أي أن يكون الإسلام قد جاء متناولاً لجميع العادات والسجايا لمختلف القوميات وإلا فلا يكون الإسلام إلا ديناً قومياً مختصاً بخصوص العرب وليس رسالة عالمية، ودعوى أممية، وهذا خلاف لقوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم النبي محمد2 }وما أرسلناك إلا كافة للناس{ ولا شك إن في القوميات الأخرى عادات وسجايا قد ارتضاها الإسلام لأنها عادات وسجايا حسنة، فإذا كان الإسلام قد جاء موطداً لجميع العادات والسجايا الحسنة لمختلف القوميات وليس ذلك مختصاً بالقومية العربية فهو إذن قد جاء موحداً وهادماً للفوارق بينها ومرتضياً لها لا على أساس إنها سجايا وعادات قومية خاصة بل على أساس إنها عادات حسنة صحيحة. إذن فالإسلام في الحقيقة قد جاء هادماً للقوميات لهدمه لأسسها ومميزاتها لا معترفاً بالقوميات.
وأما اللغة فهي لا تعني في نظر الإسلام شيئاً ولا يرى الإسلام إنه من الممكن أو الصحيح أن تقوم وحدة سياسية أو إن يقسم العالم الإنساني إلى أمم وجماعات على أساسها؛ لأن مجرد وحدة الجماعة في النطق والتلفظ لا يحقق التجاوب والاشتراك في الآلام والآمال والفكر والعقيدة.. الأمور التي لا بد من تحققها لتحقيق الوحدة بها.
وأما التاريخ فإن الإسلام قد جاء بخلق تاريخ جديد للإنسان مبنياً على أسس حضارية جديدة لا تمت بصلة لما كان شائعاً من مفاهيم بين الشعوب العربية آنذاك فهو في الحقيقة جاء هادماً لمفاهيم حضارية قديمة وبانياً لمفاهيم حضارية جديدة، هادماً لتاريخ قديم وبانياً ومؤسساً لتاريخ جديد. ولم يكن الإسلام مؤكداً لتاريخ سابق أو امتداداً له كما لم تكن أسسه الحضارية امتداداً لأسس حضارية سابقة. وبكلمة أخرى إن الإسلام بحكم طبيعة الرسالة العالمية التي ينادى بها يستهدف توحيد الإنسانية كلها في إطار تاريخي واحد وحصرها في بوتقة اجتماعية واحدة قائمة على الأساس الإسلامي. فكيف يمكن التوفيق بين هذا الهدف الذي يتوخاه الإسلام وبين الاحداث التاريخية القومية التي تؤمن الفكرة القومية بضرورتها ووجوب الحفاظ عليها وإقامة الكيان الاجتماعي على أساسها بالرغم من أن تلك الوحدات هي نفسها التي يطالب الإسلام بنفسها بدعوته الإنسانية كلها إلى تاريخ زاهر موحد إلى تاريخ عقائدي يعمره الإيمان ويوحده الفكر.
وجملة القول إن كل ما يفرض للقومية العربية من مميزات وما يدعى لها من فوارق فهي أما أن ترجع إلى الدم والعنصر وهذا شيء باطل من ناحية موضوعية لأن العلم الحديث أثبت بطلان الفوارق العنصرية في فسلجة الأعضاء، ومن وجهة نظر الإسلام أيضاً لأنه لم يفرق بين عناصر الناس بل اعتبر كل إنسان على وجه البسيطة من عنصر واحد فقد جاء في الخبر (كلكم لآدم وآدم من تراب) وأما أن نرجع إلى العادات والسجايا والمشاعر وهذه مرجعها الفكر وثم فلا يفرق في الفكر بين أن يكون فكراً عربياً أو فارسياً أو غيره فإنه على كل حال فكر واحد إلى أن يكون خطأ أو صواباً. وأما أن نرجع إلى اللغة التي لا تصلح أن تكون فارقاً أو مميزاً بين أمم الأرض بحيث يكون الاختلاف فيها مسبباً لاختلاف الأمم وتعددها، وأما أن نرجع إلى التاريخ فقد جاء الإسلام هادماً لكل تاريخ لا يقوم على أسسه الحضارية وتاريخ العرب لم يكن بلا شك مبنياً على أسس الإسلام الحضارية.
وقد ذكرت الأوراق أموراً تؤيد انسجام القومية العربية مع الإسلام ولا بد من مناقشة كل فكرة منها. فقد ذكرت هذه المؤيدات وهو : ( اهتمام القومية العربية بدرس الإسلام وتفهم حيقته وتاريخه) وهذا الأمر لا يعني عدم معارضة القومية العربية مع الإسلام في حال من الأحوال ذلك لأن دراسة الإسلام كتاريخ وكمبدأ عظيم لا يعني التمسك به ووجوب الاعتقاد بمفاهيمه والعمل على أحكامه ونظمه، بل غاية ما يعنيه ذلك هو الاستفادة من تاريخ حركة الإسلام الخيرة وما حققته من عدالة وتوازن في المجتمع، لأجل أسباغ الصفة الحضارية على الحركة القومية. بل لنكون أكثر صراحة وواقعية فنقول: إن كل ذلك كان لأجل أن العرب لم يكن لهم أي تاريخ مجيد غير تاريخ الإسلام، كما انهم لم تكن لهم حضارة تعرف بها غير حضارة الإسلام، فإذا هم أرادوا الإسلام في حركتهم فقد انهار كيانهم ووجودهم كأمة لها حضارة فليس ذلك في الواقع إلا تزويراً للحقيقة واستغلالاً لعظمة الإسلام في سبيل إنجاح حركة القومية العربية.
وثاني هذه المؤيدات (ان العرب بمثابة العمود الفقري للإسلام فهم المخاطبون الأول بآيات التنزيل وهم أول من حمل راية الإسلام..) وهذا المؤيد أيضاً لا يعني عدم معارضة الإسلام للقومية العربية وإلا لكانت معارضة العرب للإسلام في أول دعوته ومحاربتهم له مما أدى إلى عرقلة سيره ووضع العقبات والصخور في طريقه الأمر الذي جعل النبي2 يضطر إلى الهجرة.. لكان يعني هذا معارضة القومية العربية للإسلام مع إن هذا أو غيره لا يعنيان من هذا أو ذاك شيئاً. فلا نصر العرب للإسلام يعني عدم تنافي الإسلام مع القومية العربية ولا معارضتهم له تعني المنافاة ونؤكد إن العرب لم يكونوا قوميين أبداً ولا كانت القومية حقيقة قائمة فيهم ليمنعهم ذلك عن تبني الإسلام أو نصرته كما تمنع القومية العربية الآن القوميين من نصرة الإسلام وفكرته. كما إننا لا نريد إن ننكر بذلك ما بذله بعض العرب أو كثير منهم في سبيل نصرة الإسلام وإنجاح حركته لأننا لا ننكر إن العرب جماعة فيهم المجاهد الصحيح كما فيهم المعاند العنيد وفيهم المسلم المؤمن كما فيهم الكافر، وفيهم قوى الإيمان كما فيهم المنافق شأنهم في ذلك شأن سائر شعوب الأرض التي اعتنقت الإسلام وجاهدت في سبيله، ولهذا فأن الله سبحانه وتعالى سوف يثبت من جاهد في سبيله من العرب وغيرهم.
إن موقف القومية العربية من الإسلام نظير موقف التجزئة من القومية العربية تماماً. فإذا أراد شعب مصر الآن مثلاً الانفصال عن القومية العربية وإقامة كيان مصري يستمد قوامه وأسسه من تاريخ مصر ولهجتها وعاداتها وسجاياها.. بصورة منفصلة عن بقية الأقطار العربية، تعتبر هذه الحركة مخربة تهدف إلى قبر القومية العربية في مصر وتحطيم كيانها. ولا ينفع في عدم معارضة هذه الحركة للقومية العربية ما قدمه المصريون من خدمة للقومية العربية وما بذلوا من جهاد في سبيلها وما أقاموه من وحدة بين بعض أجزائها. وإذا كان هذا هو الحال في حركة التجزئة فكذلك الحال في حركة القومية العربية فأنها حركة مخربة هادمة للإسلام ولا ينفع في صحتها وصوابها وعدم معارضتها ما بذله العرب من جهاد وخدمة في سبيل الإسلام، بل ان أولئك العرب الآخرين كانوا بلا ريب محاربين لهذه الأفكار التخريبية عند ظهورها في عصور الإسلام الطويلة.
وثالث هذه المؤيدات (ان النبي كان يعتز بالأمجاد القومية) وهذا أيضاً لا يعني شيئاً من عدم معارضة الإسلام مع القومية العربية فإن النبي2 لم يكن يعتز بها كأمجاد قومية عربية بل كان يعتز بها كأمور صحيحة أقرها الإسلام وطالب بها ولم تكن تلك الأمور مختصة بالعرب فقط فقد روي عن النبي2 إنه قال (ولدت في زمن الملك العادل كسرى نوشروان) ولا يعني ذلك على تقدير النبي للعدل لا افتخاراً بأمجاد فارس وقوميتهم. والشيء الصحيح صحيح سواء وجد في العرب أم في أي جماعة أخرى فليس اعتزازه بذلك الحلف في الحقيقة إلا تمجيداً لما كان يحققه من العدل والأنصاف لا من جهة إن العرب هم كانوا أهل الانصاف أو غيرهم.
ورابع هذه المؤيدات (صحة إطلاق لفظ المسلم على القومي المعتز بقوميته، مع عدم صحة إطلاق هذا اللفظ على الملحد الشيوعي مثلاً) . وهذا أيضاً كالمؤيدات السابقة لا يعني شيئاً من عدم التناقض بين الإسلام والقومية العربية. فإن لفظ المسلم يطلق على كل من شهد الشهادتين سواء كان يؤمن بعقيدة الإسلام بواقع حاله أو لا يؤمن وسواء كان يتبنى جميع أفكار الإسلام وأحكامه ومفاهيمه أم لا يتبناها.
وهناك كثير من الأفكار الكافرة التي يتبناها المسلمون ومع ذلك لا يخرجون عن كونهم مسلمين وإن كانوا يتبنون أفكاراً كافرة ويعاملون لها؛ فالديمقراطية مثلاً فكر كافر وانها تقوم على أساس وضع السلطات التشريعية والتنفيذية بيد الشعب، والإسلام يقوم على اساس وضع السلطات التشريعية والتنفيذية بيد الشعب، والإسلام يقوم على أساس وضع السلطة التشريعية بيد الله، كما إنها تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة والإسلام لا يقر هذا الفصل. فهي فكر كافر إلا أنها يعتنقها المسلم لغفلة أو شبهة ويطلق عليه لفظ المسلم إلى أن ذلك لا ينافي كونها فكراً كافراً لا يجوز تبنيه والعمل لأجله. وكذلك الحال في القومية العربية فإنها فكر كافر الا أنها يعتنقها المسلم لغفلة أو شبهة ويطلق عليه لفظ المسلم إلا أن ذلك لا ينافي كونها فكراً كافراً لا يجوز تبنيه والعمل لأجله. وكذلك الحال في القومية العربية فإنها فكر كافر كما أوضحناه قد يتبناه المسلم ويطلق عليه مع ذلك لفظ المسلم، بل إن لفظ المسلم قد يطلق على من لا يؤمن بالإسلام أبداً كما هو الحال في إطلاقه على المنافقين فقد كان النبي2 يعاملهم معاملة المسلمين مع شهادة القرآن على كذبهم في دعواهم بتبني الإسلام قال تعالى }إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يهد إن المنافقين لكاذبون{.
وقد ذكرت الأوراق مضافاً إلى هذه المؤيدات عاملين كان لهما ـ بحسب دعوى الأوراق ـ في نشر فكرة التناقض بين القومية العربية والإسلام (الأول المفهوم الاستعماري الغربي عن الإسلام حيث حاول الاستعمار أن يطبع الإسلام بالطابع الكنسي للدين ذلك الدين الضيق الذي يتصادم مع كل شيء في الحياة ومع كل فكرة جديدة اجتماعية وعليه مع ان الإسلام دين واسع رحب لأنه نظام اجتماعي وفلسفة حياتية وقواعد اقتصادية). وإنه لمن الغريب جداً أن يكون المفهوم الاستعماري عن الإسلام دليلاً على نشوء فكرة التناقض بين الإسلام والقومية العربية مع أن القومية العربية لم تتم إلا على أساس إن الإسلام دين لابد أن يكون ضمن حدود المسجد في إطار المثل الروحية وبالتالي فلا بأس من شموله لقضايا النكاح والطلاق... بل لا يمكن أن تقوم القومية العربية إلا على أساس هذا المفهوم الاستعماري فإن الإسلام إذا كان ديناً واسعاً رحباً ونظاماً اجتماعياً واقتصادياً فكيف يمكن أن يتلاءم مع نظام اجتماعي آخر؟.. إن الإسلام إذا كان نظاماً اجتماعياً فهو لا بد أن يكون متعارضاً مع كل نظام اجتماعي آخر ويكون في هذا المفهوم الصحيح عن الإسلام معبراً عن التنافي بين القومية العربية والإسلام.
وما قولة القوميين وغيرهم (الدين لله والوطن للجميع) إلا دعوة لفصل الدين عن الدولة والسياسة وحصره في ميدان الاعتقاد الشخصي وما أشبه ذلك... تلك الدعوى التي بشر لها الاستعمار وأعمل نفوذه السياسي والعسكري لتحقيقها. ولعل كاتب الأوراق إنما جاء بذلك تمويهاً عن الواقع الذي يدعو إليه القوميون وأول دليل على ذلك تصريح القوميين أنفسهم بأن الدين إذا أريد به نظام اقتصاد وسياسة وأسرة فهو يعارض القومية العربية كما يتضح ذلك بمراجعة كتاب (مع القومية العربية).
الثاني: (المفهوم الشعوبي عن العرب حيث نشأ في تاريخ الإسلام بعض الشعوبيين). ونحن بطبيعة الحال لا نقر الشعوبيين ـ إن صح ذلك ـ على استهانتهم بالعرب وبأمجادهم لأن العرب كما أكدنا عليه جماعة فيهم الصالح والطالح والمسلم والكافر والمؤمن والمنافق... والهجوم عليهم وشتمهم كمجموع يعني شتم هؤلاء الصالحين منهم أيضاً وهو شيء لا يقره الإسلام أبداً. إلا إن ذلك لا يعني ان للشعوبيين أثراً في نشر هذه الفكرة إذ التعارض قائم بين القومية العربية والإسلام مع قطع النظر عن هؤلاء الشعوبيين وخططهم وهذا شيء أوضحناه جلياً فيما سبق.
كما أن الجدير بالذكر أن الشعوبية في الأيام الأخيرة أصبحت وصمة لكل داع أممي ولكل مسلم يدعو إلى الإسلام ويقول بتعارض القومية العربية مع الإسلام.
ولقد تعرضت الأوراق إلى موضوع الوحدة الإسلامية والوحدة العربية محاولة لتبرير دعوة القوميين العرب إلى الوحدة العربية دون الوحدة الإسلامية، والبحث في موضوع الوحدة الإسلامية والحدة العربية تارة يكون بلحاظ الفكرة التي تقوم عليها الوحدة العربية وأخرى بلحاظ إن الوحدة العربية هي الاسلوب الأقرب إلى واقع العرب المسلمين وبتعبير آخر، إن هناك سؤالاً هو: إلى ماذا يجب أن ندعو هل إلى الوحدة الاسلامية أم إلى الوحدة العربية؟ والجواب على هذا السؤال تارة يكون بلحاظ ما تفرضه علينا فكرتنا الإسلامية وأخرى بلحاظ ما يفرضه علينا واقعنا الإسلامي. وننظر إلى الموضوع من كلتا الناحيتين معاً. أما عن الناحية الفكرية فقد عرفنا سابقاً إن الوحدة الحقيقية هي الوحدة التي تقوم على أساس الأفكار لا على أساس أي شيء آخر وإن المائز الرئيسي بين الأمم هو الأفكار والمشاعر، وعلى طبق الأفكار والمشاعر تحدد العلاقات بين أفراد الأمة وأبنائها. وليس التاريخ واللغة مما يمكن أن يكون أساساً لهذه الوحدة والعلاقات وإذا كان الأمر كذلك فالوحدة يجب أن تكون وحدة إسلامية، ودعوتنا إلى الوحدة يجب أن تكون دعوة إلى الوحدة الاسلامية فأن جميع الشعوب الإسلامية تربطها وحدة فكرية صحيحة هي وحدة العقيدة الإسلامية التي ترتكز عليها جميع الأفكار والمفاهيم والأحكام الإسلامية. وما يبدو في هذه الوحدة الآن من الانحلال والتردي إنما هو شيء ناشيء بلا شك من قيام دعوات تدعوا لي الأفكار غير الإسلامية كالدعوة إلى القومية والديمقراطية والوطنية، ولا فرق ثم بين أن تقوم هذه الوحدة بين العراق وإيران أو بين العراق وسوريا ما دام أساس الوحدة هو العقيدة الإسلامية، لأن ارتباط كل من إيران والعراق كارتباط سوريا والعراق من ناحية الفكر والعقيدة.
ونحن بتأكيدنا على ذلك لا نحاول إنكار المشاعر القومية والوطنية الموجودة الآن في الشعوب الإسلامية إلا إن هذا لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً لأن وجود هذه المشاعر لا يبرر الدعوة إلى غير هذه الوحدة الفكرية الصحيحة بل إن حال هذه المشاعر كحال المشاعر (المذهبية) والاقليمية التي لا تبرر الدعوة لإقامة وحدة مذهبية وإقليمية. فإذا كنا مسلمين حقاً فلا بد لنا من بعث الروح الإسلامية في هذه الشعوب وإقامة وحدة إسلامية متماسكة بينها.
هذا من الناحية الفكرية. وأما من الناحية العملية فقد يقال كما قالت الأوراق إن الظرف الحاضر يفرض علينا أسلوباً خاصاً في طريقتها إلى الوحدة الإسلامية الشاملة وذلك بأن ندعو إلى الوحدة العربية ويكون ذلك كتعهد لتوحيد الشعوب ثانياً ـ نعم قد يكون ذلك ـ وقد نسلم به مبدئياً إلا أن هناك فرقاً واضحاً بين الدعوة إلى الوحدة العربية على أساس كونها أسلوباً وطريقاً يفرضه علينا الظرف الدولي وبين الدعوة إلى الوحدة العربية كغاية وهدف نصل إليه ثم نقف عنده. وهذا الأخير ما يدعو إليه القوميون.
وبيان الفرق إن الفرض الأول يقوم على أساس أن العامل الذي يجب أن تقوم عليه الوحدة بين الشعوب العربية هو العامل الفكري أي الإسلام فهي في الحقيقة تكون وحدة إسلامية بين الشعوب العربية وليست وحدة عربية. وهذا بخلاف الفرض الثاني؛ فان العامل فيه الذي يوحد هذه الشعوب هو العامل القومي فهي وحدة عربية بين الشعوب العربية فليست أسلوباً للوحدة الإسلامية بل تكون في الحقيقة ابتعاداً عن الإسلام ومفاهيمه بعد أن اتضح مدى التنافي بين الإسلام والقومية العربية. وبيان آخر: إن المقصود بالوحدة الإسلامية فحسب على أي شكل كان قائماً ذلك التوحيد بل المقصود بالوحدة الإسلامية هو الدعوة إلى توحيد هذه الشعوب على أساس الإسلام أي أن يكون الكيان السياسي الموحد قائماً على أساس مبدأ الإسلام، وأيّ وحدة تقوم على هذا الأساس تكون وحدة إسلامية من دون فرق فيها بين أن تكون قائمة بين شعب عربي وآخر غير عربي وأن تكون قائمة بين قطرين عربيين. فإذا كانت هذه حقيقة الوحدة الإسلامية فلا يمكن أن تكون الدعوة إلى الوحدة العربية أسلوباً لاقامة الوحدة الإسلامية لأن الدعوة إلى الوحدة العربية تعني بعث العامل القومي وإقامة الكيان السياسي على أساسه واعتباره العامل الصحيح الذي يوحد هذه الشعوب، وبهذا العمل نكون قد ابتعدنا عن هدفنا الأساسي وهو إقامة الوحدة الإسلامية بابتعادنا عن الإسلام نفسه الذي هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الوحدة.
وإذا أردنا أن نتناول مسألة تعارض الإسلام مع القومية العربية في ضوء تصريحات الدعاة القوميين أنفسهم واعترافاتهم بغض النظر عن المقايسة الفكرية بين الدعوتين إنه لو أردنا ذلك لوجدنا ان رواد القومية العربية ودعاتها يصرحون في مناسبات كثيرة بتعارض الإسلام مع القومية العربية وفصله عن الميدان الاجتماعي والسياسي للعرب ولا يعدم الداعية الشواهد الكثيرة على ذلك فالكتب والمجلات والجرائد القومية حافلة بهذه التصريحات.. ففي مقال لعبد الله عبد الدائم تحت عنوان (إنسانية لا أممية) يصرح بتعارض الدعوة الأممية مع الدعوة القومية وبالأخص دعوة الإسلام الأممية. كما إن في كتاب (مع القومية العربية) تصريحاً بذلك كما أشرنا إليه.. إلى غير ذلك من التصريحات.
وواقع القومية العربية الدولي اليوم شاهد آخر على هذا التعارض القائم بين الإسلام والقومية العربية.
نشر الدعوة الإسلامية العدد الرابع 1962م
الاستاذ الشهيد عزالدين سليم (ره)
وردتنا بعض الأسئلة عن موقف الإسلام من القومية العربية والدعوة لإقامة كيان سياسي للعرب على أساسها، وقد جاءت هذه الأسئلة مرفقة بأوراق كتبها بعض القوميين محاولين فيها بيان عدم تعارض القومية العربية مع الإسلام ونظمه. والرسالة على ما فيها من غموض وتشويش نلخصها فيما يلي:
>قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال: هل هناك تعارض بين القومية العربية بمعناها العلمي الدقيق والشعور الإسلامي الصحيح؟
الجواب على هذا السؤال:
>عرفت الأوراق حقيقة القومية العربية بأنها فكرة سياسية اجتماعية ترمي بالدرجة الأولى إلى توحيد (كل!) جماعة متجانسة من البشر وخضوعها لنظام سياسي واحد، وأن مفهوم القومية العربية الحديثة لا يقوم على أساس الدم مطلقاً وإنما يقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا..
أما اللغة فلا ينكر أحد بأن للعرب لغة قبل وجود الإسلام تمتاز عن جميع لغات العالم الأخرى ولا يزالون محتفظين بها إلى الآن.
وأما لعادات والسجايا فقد اشتهر العرب بعاداتهم الحسنة التي لا تخلو من سيئات، وجاء الإسلام فأحدث ثورة عارمة داخل العرب فوحد كيانهم المبعثر ونظمهم وتناول اللغة فقدم لها ضماناً في فوحد كيانهم المبعثر ونظمهم وتناول اللغة فقدم لها ضماناً في القرآن كما تناول العادات والسجايا فوطد العادات الحسنة ومحق العادات السيئة، وبذلك كان تاريخ العرب بعد الإسلام أكثر نضجاً وأعضم شأناً، وهذا يدلنا على أن الإسلام بروحه وطد عناصر القومية ولم ينكرها. فالقومية الحقة لا يمكن أن تناقض الدين إذ ليست في جوهرها الا حركة روحانية ترمي إلى بعث قوى الأمة الداخلية وتحقيق قابلياتها العقلية والنفسية.. ومما يؤيد انسجام القومية العربية مع الإسلام أمور:
1ـ اهتمام القومية العربية بدرس الإسلام وتفهم حقيقته وتاريخه وتقديسها ذكرى النبي2.
2 ـ ان العرب هم بمثابة العمود الفقري للإسلام فهم المخاطبون الأولون بآيات التنزيل وهم أول من حمل راية الإسلام ودافع عنها.
3 ـ ان النبي كان يعتز بالاتحاد القومي كاعتزازه بحلف الفضول وهو الحلف الذي تعاقدت فيه بطون قريش على نصرة المظلوم حتى يؤدى إليه حقه حيث قال2 >ما أحب إن لي بحلف حضرته من جدعان حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت<.
4 ـ صحة إطلاق لفظ المسلم على القومي المعتز بقوميته، فلو كان هناك تنافٍ بين القومية العربية والإسلام لما صح ذلك. كما لا يصح إطلاق لفظ الديمقراطي على الدكتاتوري ولفظ المسلم على الملحد لوجود التنافي بينهما.
كما ان الأسباب التي نشأت منها فكرة تناقض القومية العربية مع الإسلام هي:
1 ـ المفهوم الاستعماري الخبيث عن الإسلام حيث حاول الاستعمار الغربي ان يطبع الإسلام بطابع الدين الكنسي في القرون الوسطى، ذلك الدين الضيق الذي كان يقاوم مع كل شيء في الحياة ومع كل فترة جديدة اجتماعية وعلمية، مع ان الإسلام دين واسع رحب لأنه نظام اجتماعي وفلسفة حياتية وقواعد اقتصادية ونظام للحكم بالاضافة إلى كونه عقيدة دينية بالمعنى الغربي الضيق.
2 ـ المفهوم الشعوبي عند العرب حيث نشأ في تاريخ الإسلام في القرن الرابع الهجري لبعض الشعوبيين الذين كانوا يستهدفون النيل من العرب والاستهانة بأمجادهم وتاريخهم.
وقد تؤاخذ القومية العربية بدعوتها إلى توحيد خصوص البلاد العربية دون الدعوة إلى توحيد البلاد الإسلامية، ولكن توحيد البلاد الإسلامية أمر غير عملي في الوقت الحاضر لأسباب عديدة بعضها جغرافي وبعضها سياسي وبعضها اجتماعي.. وعلى فرض توحيدها فان توحيد الأجزاء التي تتكلم لغة واحدة وتتذوق أدباً واحداً ويجمعها تاريخ واحد ألزم وأولى ,أقرب إلى الواقع المحسوس. فمن غير الطبيعي ان ننتظر اتحاد العراق مع إيران والأفغان قبل أن يتحد مع سوريا والأردن.. وعلى هذا فالدعوة إلى توحيد العرب هي الخطوة العملية التي ينبغي أن تسبق أية دعوة إلى الوحدة الإسلامية وأخيراً؛ فإن القومية العربية ليست لها نوايا عدوانية أو استعلائية على غيرها من القوميات تلك النوايا التي لا تقرها الأديان بصورة عامة والإسلام بصورة خاصة وخلاصة القول انه ليس هناك تعارض أساسي واضح بين القومية العربية والإسلام وأقرب ما يمكن أن توصف العلاقة بينهما انها علاقة عموم وخصوص، ومن يريد أن يعتقد بنبل أهداف حركتنا القومية والاتجاه السياسي فيها فليراجع الميثاق القومي ففيه الدلالة الواضحة على ذلك.<
هذه هي خلاصة الأوراق المرفقة مع دعوى عدم مناقصة القومية العربية مع الإسلام. والظاهر إن هذه الأوراق لم تنشأ من قبل كاتبها على الورق ولذا فهي مشوشة فكرياً، ويتضح ذلك بمراجعة كتاب >من روح الإسلام< >فإن أكثر ما كتب في الأوراق مأخوذ منه كما ان فيها تناقضاً بيناً أثرناه في هذه الخلاصة:
ونحن هنا نحاول أن نجيب على جميع ما ذكر مسن البراهين والأدلة، على عدم تنافي القومية العربية مع الإسلام، كل ذلك على نحو الاختصار، ونترك التفصيل إلى رسالة خاصة تكتب في هذا الموضوع إن شاء الله.
والبحث عن القومية العربية له جانبان فإنه تارة يبحث عن القومية العربية من الناحية الموضوعية ومدى وجود الوحدات الأربع: التاريخ، اللغة، العادات، السجايا، في واقعها وحقيقتها. وأخرى يكون البحث عنها من ناحية رأى الإسلام فيها كدين يتبناه أكثر العرب ويهمنا استطلاع رأيه فيها.
أما عن الناحية الأولى فمن الثابت تاريخياً عدم قيام وحدة لغوية بين البلاد العربية قبل الإسلام وإنما كان بعض البلاد يتكلمون بلغة لا تفهمها البلاد الأخرى مطلقاً؛ فقد كان الشعب المصري (شعب مصر) وكذلك شعب الشام يتكلمون بلغة لا يفهمها شعب الحجاز أبداً، ووحدة اللغة العربية بين هذه الشعوب إنما جاءت بعد الإسلام وشموله لهذه الأفكار. بل من الثابت تاريخياً ان أهل اليمن وهم عرب قبل الإسلام بلا ريب كانوا يتكلمون لغة لا يفهمها أحد من عرب اليوم مطلقاً، كما دلت كثير من الحفريات وعرب اليوم إنما يتكلمون بلغة أهل الحجاز فقط وذلك بفضل القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم. وأما وحدة التاريخ، فتاريخ العرب كان مختلفاً اختلافاً بعيداً بعضه عن البعض الآخر؛ فلم يكن تاريخ عرب العراق متفقاً مع تاريخ عرب اليمن، بل ولا مشتركاً معه ببعض الحوادث قبل الإسلام. وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع البلدان العربية الأخرى فقد كان العراق يخضع لسلطان الفرس ومتأثراً بحضارتهم، كما كان عرب الشام خاضعين لسلطان الروم ومتأثرين بحضارتهم، والبون شاسع بين تاريخ فارس والرومان. كما إن كلاً من الحضارتين تختلف عن الحضارة الأخرى ولا يحتاج بيان الاختلاف بحسب التاريخ بين البلاد العربية إلى مزيد بيان فأن أقل مراجعة إلى تاريخ العرب قبل الإسلام تغنينا عن ذلك تماماً.
كما انه لم يثبت تاريخيا وجود وحدة بين القبائل العربية بحسب العادات والسجايا قبل الإسلام، ذلك ان التاريخ لم يتعرض لحياة الشعوب العربية آنذاك وإنما تعرض لقصص بعض رجال العرب كأمور يستحقون عليها الذكر فليس الكرم المنقول عن بعض رجال العرب أو الشجاعة أو غير ذلك من الصفات الحميدة عادة وسجية لكل العرب ورجالهم أو للكثرة الكاثرة منهم، كما انها ليست عادة وسجية مختصة بالعرب وحدهم، وليس هناك أي دليل تاريخي على ذلك فالعادات والسجايا الحسنة التي نعتز بها اليوم انما جاء بها الإسلام وتطبع بها المسلمون عرباً وغير عرب فإذا كان أساسالتجانس الذي تقوم عليه القومية العربية هو هذه الوحدات الأربع فهي ليست موجودة ولا قائمة بين العرب قبل الإسلام أصلاً ولا دليل يشير إلى ذلك بل الأدلة التاريخية في كثير من الحالات تثبت العكس.
ثم إن القومية العربية لما كانت فكرة قائمة على أساس الاحساس والشعور العاطفي لا على أساس الفكر والمنطق لم تكن فكرة صالحة لأن يقوم عليها الكيان السياسي وتحدد بموجبها العلاقات بين الأفراد والجماعات، ولم تكن تضمن حياة سعيدة هانئة لأمة كاملة، ولذا نرى إن جميع الدعوات القومية ترتكز في إقامة كيانها السياسي على مبدأ أو أفكار ليس لها علاقة بهذا الشعور العاطفي مطلقاً ولا تنبثق من صميمه وكيانه. فتارة تتبنى الحركة القومية الاشتراكية وأخرى الرأسمالية كنظم اقتصادية والدكتاتورية تارة والديمقراطية أخرى كنظم سياسية وهكذا فهي دائماً وأبداً تكون عالة على غيرها في إقامة كيانها الذي تدعو إلى بعثه وتكوينه.
هذا من الناحية الموضوعية. وأما من ناحية وجهة نظر الإسلام فيها فالشيء الذي لا بد أن نشير إليه هو ان مفهوم القومية العربية مفهوم حديث بدأ يدب في العرب من جراء الغزو الفكري للمستعمر الكافر للبلاد الإسلامية العربية وأصبح واسع الانتشار بعد الغزو العسكري المسلح تأثراً من العرب بالمفاهيم الغربية الخبيثة في الحياة والكون وهو بذلك لم يتبلور حتى الآن بصورة نهائية متفق عليها. غير ان الشيء الذي لا شك فيه هو ان القومية العربية بكل المفاهيم السياسية التي أعطيت لها تتعارض مع الإسلام. أما المفهوم غير السياسي للقومية العربية الذي يعني الشعور بعاطفة الحب والتقدير تجاه العرب وتقديمهم على غيرهم من أصحاب القوميات الأخرى في المعاملات والتصرفات الشخصية فهو شيء لا يعارض الإسلام ولا ينافيه، وشأن هذه العاطفة شأن جميع العواطف الأخرى التي تنشأ من المفاهيم الاقليمية والقبلية والأسرية والتي تعني الشعور بعاطفة الحب تجاه سكنة الاقليم الخاص او اتجاه القبيلة الخاصة أيضاً فان جميع ذلك لا يمنعه الإسلام، وإن كان الإسلام يريد من المسلم الكامل أن لا تكون هذه العواطف مقياساً له حتى في هذه التصرفات الشخصية وان يكون مقياسه في ذلك كله الورع والتقوى لأن هذا المقياس هو المقياس الأكمل الذي وضعه الله تعالى واختاره لعباده وأخذ على نفسه أن يعاملهم به في مجالات الإكرام والتقدير قال تعالى }إن أكرمكم عند الله أتقاكم{.
نعم لما كانت مفاهيم القومية العربية غير متبلورة حتى الآن بصورة نهائية كان لا بد لنا أن نستعرض أوسع هذه المفاهيم انتشاراً ونبين مدى التعارض بينها وبين الإسلام، وأهم هذه المفاهيم المفاهيم مفهومان: الأول المفهوم الذي أعطاه رجال البعث العربي متأثرين فيه بمنطق هيجل التطوري أو بالأخرى فلسفة ماركس في التاريخ وهم بذلك يحاولون أن يسبغوا عليهم الصبغة الفلسفية والصبغة العقائدية ليمدوه بروح تمكنه من أن يعيش مدة أطول في حياة الشعوب العربية. وهذا المفهوم هو ان القومية العربية ليست فكرة وإنما واقع الأمة العربية، وهذا الواقع يتطور بمرور الزمن عليه متأثراً بالظروف المختلفة التي تمر به، والأحداث الداخلية والخارجية التي تلاقيه. وهي تقتضي في كل ظرف وزمان شكلاً من الحكم والنظام تفرضه المرحلة التي يمر بها ذلك الواقع فليس ذلك النظام إلا حدثاً من الأحداث الحتمية التي تنبع من الواقع وتنبثق منه. والإسلام بدوره لم يكن إلا مظهراً واحداً من مظاهر تطور هذا الواقع للأمة العربية آنذاك. ولما كان ذلك الواقع قد تطور بمرور الزمن فنظامه بدوره لا بد أن يتطور ويكون شكلاً آخر، فواقع الأمة يفرض نظاماً وشكلاً من الحكم يختلف تماماً عما كان يفترض منه في تلك الفترة، أي يختلف تماماً عن نظام الإسلام نفسه. وإن ما يفرضه واقع الأمة العربية اليوم إنما هو النظام الديمقراطي أمراً يرجع إلى المرحلة نفسها وشيئاً يفرضه تطور واقع الأمة العربية وليس أمراً ناشئاً من عجز القومية العربية وحدها عن إقامة الكيان السياسي. ولسنا الآن بصدد بيان وإيضاح فساد الفلسفة التطورية المزعومة لأن ذلك شيء مرهون بوقته كما نبهنا على ذلك في البحث، وإنما نحن الآن بصدد بيان معارضة هذا المفهوم للدين الإسلامي الذي نتبناه ونعمل لأجله، والتناقض بين هذا المفهوم للقومية العربية والإسلام شيء واضح جلي وذلك:
أولاً: إن الإسلام لا يكون على هذا التفسير للقومية العربية ديناً سماوياً أنزله الله على نبيه محمد2 وإنما يكون مظهراً حتمياً لواقع الأمة العربية. فلس هناك نبوة ووحي أو غير ذلك من الأمور التي هي من ضروريات دين الإسلام ومقوماته، ما دام الإسلام شيئاً منبثقاً من واقع الأمة العربية وأمراً يفرضه ذلك الواقع.
وثانياً: إن هذا المفهوم قد اعتبر الإسلام علاجاً مؤقتاً لفترة معينة من حياة الأمة العربية وتذهب فائدة هذا العلاج بعد تطور واقع الأمة العربية إلى مرحلة أخرى من مراحل تطورها، وليس الإسلام إلا رسالة خالدة على مر الزمن كما صرح بذلك نبيه العظيم محمد2 كما جاء في الخبر (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة) كما إن إجماع العلماء علماء الإسلام ـ على ذلك، بل يعتبر خلود رسالة الإسلام ضرورياً من ضروريات الإسلام. وقد ذكر هذا التفسير في الإسلام ما يوافق هذه المرحلة أيضاً من تطور واقع الأمة وذلك الشيء هو روح الإسلام المتمثلة في العدالة والحرية والمساواة ونحن بتبنينا للاشتراكية أخذنا الإسلام بروحه وجوهره وطرحنا ما هو من قشره ولبابه. فقد عرى هذا التفسير الإسلام عن كل أحكامه وتشريعاته لأن تلك التشريعات لم تكن إلا لمرحلة خاصة من تطور الأمة.
والإسلام لا يؤمن بهذا التفسير العريان له وإنما يعتبر ذلك تشويهاً وإيماناً ببعضه وكفراً ببعضه الآخر. }أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض{ فمتى كان الإسلام روحاً بلا جسم وعقيدة بلا نظام ومعانٍ متتالية بلا تطبيق وعمل؟! وملاحظة القرآن الكريم والسنة النبوية تغنينا عن الإطالة في الكلام، فقد جاء القرآن مشرعاً في كبار الأمور وصغارها وموعداً ومنذراً كل من تعدى ذلك إلى غيره مشدداً في أتباع أوامره ونواهيه.
وهذا التفسير للقومية العربية هو التفسير المنتشر بين قادتها ومفكريها وقد أخذناه من كتاب (مع القومية العربية) لحامد الجبوري والحكم وروزه، وهو كتاب لا يشك أي مسلم عند مطالعته بمناقضة القومية العربية للدين الإسلامي وإنما تستهدف هدم كيانه وأبعاد الأمة عن واقعه وحقيقته. كما قد امتلأ الكتاب بالاضاليل والدعاوى العجبيبة عن الإسلام وتاريخه محاولاً بذلك أسدال الستار المظلم على دور الإسلام في التاريخ والفتوحات.
والمفهوم الثاني عن القومية العربية: هو ما جاءت به الأوراق آنفة الذكر حيث قالت >فالقومية فكرة سياسية اجتماعية ترمي بالدرجة الأولى إلى توجية كل جماعة متجانسة من البشر وخضوعها لنظام سياسي واحد، وإن مفهوم القومية العربية الحديثة لا يقوم على أساس الدم مطلقاً وإنما يقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا >ونأخذ كل فقرة من هذه الفقرات الأربع لنرى رأى الإسلام فيها.. وهل أقر شيئاً من هذه الميزات الأربع ليكون ذلك إقراراً منه للقومية العربية أو إنه إزالها ووحد بين جميع القوميات فيه. وبلا شك إنه بناء على فكرة القومية العربية لا بد أن يكون العالم الإنساني منقسماً إلى عدة قوميات ولكل واحدة من هذه القوميات هذه الميزات الأربع وباختلاف هذه الميزات تختلف القوميات فليس في العالم القومية العربية فقط وإنما فيه القومية التركية والفارسية والكردية وهكذا... وكل واحدة من هذه القوميات تقوم على أساس اللغة والتاريخ والعادات والسجايا وإذا كان الأمر كذلك فما رأى الإسلام في هذه الفوارق والمميزات التي تقوم على أساس القوميات وتختلف فيها فيما بينها باختلاف هذه المميزات؟
ونبدأ بالعادات والسجايا أولاً: لقد جاء الإسلام ـ كما تقول الأوراق ـ فطهر عادات وسجايا العرب فوطد العادات الحسنة ومحق العادات السيئة، فهل كان ذلك من الإسلام مختصاً بعادات وسجايا القومية العربية فقط أو إنه شامل ومتناول لكل العادات والسجايا حتى عادات وسجايا القوميات الأخرى التي تختلف بمجموعها عن عادات وسجايا القومية العربية؟ فان الجواب لا يخلو من أحد هذين الفرضين. فلا بد أن يكون الفرض الثاني أي أن يكون الإسلام قد جاء متناولاً لجميع العادات والسجايا لمختلف القوميات وإلا فلا يكون الإسلام إلا ديناً قومياً مختصاً بخصوص العرب وليس رسالة عالمية، ودعوى أممية، وهذا خلاف لقوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم النبي محمد2 }وما أرسلناك إلا كافة للناس{ ولا شك إن في القوميات الأخرى عادات وسجايا قد ارتضاها الإسلام لأنها عادات وسجايا حسنة، فإذا كان الإسلام قد جاء موطداً لجميع العادات والسجايا الحسنة لمختلف القوميات وليس ذلك مختصاً بالقومية العربية فهو إذن قد جاء موحداً وهادماً للفوارق بينها ومرتضياً لها لا على أساس إنها سجايا وعادات قومية خاصة بل على أساس إنها عادات حسنة صحيحة. إذن فالإسلام في الحقيقة قد جاء هادماً للقوميات لهدمه لأسسها ومميزاتها لا معترفاً بالقوميات.
وأما اللغة فهي لا تعني في نظر الإسلام شيئاً ولا يرى الإسلام إنه من الممكن أو الصحيح أن تقوم وحدة سياسية أو إن يقسم العالم الإنساني إلى أمم وجماعات على أساسها؛ لأن مجرد وحدة الجماعة في النطق والتلفظ لا يحقق التجاوب والاشتراك في الآلام والآمال والفكر والعقيدة.. الأمور التي لا بد من تحققها لتحقيق الوحدة بها.
وأما التاريخ فإن الإسلام قد جاء بخلق تاريخ جديد للإنسان مبنياً على أسس حضارية جديدة لا تمت بصلة لما كان شائعاً من مفاهيم بين الشعوب العربية آنذاك فهو في الحقيقة جاء هادماً لمفاهيم حضارية قديمة وبانياً لمفاهيم حضارية جديدة، هادماً لتاريخ قديم وبانياً ومؤسساً لتاريخ جديد. ولم يكن الإسلام مؤكداً لتاريخ سابق أو امتداداً له كما لم تكن أسسه الحضارية امتداداً لأسس حضارية سابقة. وبكلمة أخرى إن الإسلام بحكم طبيعة الرسالة العالمية التي ينادى بها يستهدف توحيد الإنسانية كلها في إطار تاريخي واحد وحصرها في بوتقة اجتماعية واحدة قائمة على الأساس الإسلامي. فكيف يمكن التوفيق بين هذا الهدف الذي يتوخاه الإسلام وبين الاحداث التاريخية القومية التي تؤمن الفكرة القومية بضرورتها ووجوب الحفاظ عليها وإقامة الكيان الاجتماعي على أساسها بالرغم من أن تلك الوحدات هي نفسها التي يطالب الإسلام بنفسها بدعوته الإنسانية كلها إلى تاريخ زاهر موحد إلى تاريخ عقائدي يعمره الإيمان ويوحده الفكر.
وجملة القول إن كل ما يفرض للقومية العربية من مميزات وما يدعى لها من فوارق فهي أما أن ترجع إلى الدم والعنصر وهذا شيء باطل من ناحية موضوعية لأن العلم الحديث أثبت بطلان الفوارق العنصرية في فسلجة الأعضاء، ومن وجهة نظر الإسلام أيضاً لأنه لم يفرق بين عناصر الناس بل اعتبر كل إنسان على وجه البسيطة من عنصر واحد فقد جاء في الخبر (كلكم لآدم وآدم من تراب) وأما أن نرجع إلى العادات والسجايا والمشاعر وهذه مرجعها الفكر وثم فلا يفرق في الفكر بين أن يكون فكراً عربياً أو فارسياً أو غيره فإنه على كل حال فكر واحد إلى أن يكون خطأ أو صواباً. وأما أن نرجع إلى اللغة التي لا تصلح أن تكون فارقاً أو مميزاً بين أمم الأرض بحيث يكون الاختلاف فيها مسبباً لاختلاف الأمم وتعددها، وأما أن نرجع إلى التاريخ فقد جاء الإسلام هادماً لكل تاريخ لا يقوم على أسسه الحضارية وتاريخ العرب لم يكن بلا شك مبنياً على أسس الإسلام الحضارية.
وقد ذكرت الأوراق أموراً تؤيد انسجام القومية العربية مع الإسلام ولا بد من مناقشة كل فكرة منها. فقد ذكرت هذه المؤيدات وهو : ( اهتمام القومية العربية بدرس الإسلام وتفهم حيقته وتاريخه) وهذا الأمر لا يعني عدم معارضة القومية العربية مع الإسلام في حال من الأحوال ذلك لأن دراسة الإسلام كتاريخ وكمبدأ عظيم لا يعني التمسك به ووجوب الاعتقاد بمفاهيمه والعمل على أحكامه ونظمه، بل غاية ما يعنيه ذلك هو الاستفادة من تاريخ حركة الإسلام الخيرة وما حققته من عدالة وتوازن في المجتمع، لأجل أسباغ الصفة الحضارية على الحركة القومية. بل لنكون أكثر صراحة وواقعية فنقول: إن كل ذلك كان لأجل أن العرب لم يكن لهم أي تاريخ مجيد غير تاريخ الإسلام، كما انهم لم تكن لهم حضارة تعرف بها غير حضارة الإسلام، فإذا هم أرادوا الإسلام في حركتهم فقد انهار كيانهم ووجودهم كأمة لها حضارة فليس ذلك في الواقع إلا تزويراً للحقيقة واستغلالاً لعظمة الإسلام في سبيل إنجاح حركة القومية العربية.
وثاني هذه المؤيدات (ان العرب بمثابة العمود الفقري للإسلام فهم المخاطبون الأول بآيات التنزيل وهم أول من حمل راية الإسلام..) وهذا المؤيد أيضاً لا يعني عدم معارضة الإسلام للقومية العربية وإلا لكانت معارضة العرب للإسلام في أول دعوته ومحاربتهم له مما أدى إلى عرقلة سيره ووضع العقبات والصخور في طريقه الأمر الذي جعل النبي2 يضطر إلى الهجرة.. لكان يعني هذا معارضة القومية العربية للإسلام مع إن هذا أو غيره لا يعنيان من هذا أو ذاك شيئاً. فلا نصر العرب للإسلام يعني عدم تنافي الإسلام مع القومية العربية ولا معارضتهم له تعني المنافاة ونؤكد إن العرب لم يكونوا قوميين أبداً ولا كانت القومية حقيقة قائمة فيهم ليمنعهم ذلك عن تبني الإسلام أو نصرته كما تمنع القومية العربية الآن القوميين من نصرة الإسلام وفكرته. كما إننا لا نريد إن ننكر بذلك ما بذله بعض العرب أو كثير منهم في سبيل نصرة الإسلام وإنجاح حركته لأننا لا ننكر إن العرب جماعة فيهم المجاهد الصحيح كما فيهم المعاند العنيد وفيهم المسلم المؤمن كما فيهم الكافر، وفيهم قوى الإيمان كما فيهم المنافق شأنهم في ذلك شأن سائر شعوب الأرض التي اعتنقت الإسلام وجاهدت في سبيله، ولهذا فأن الله سبحانه وتعالى سوف يثبت من جاهد في سبيله من العرب وغيرهم.
إن موقف القومية العربية من الإسلام نظير موقف التجزئة من القومية العربية تماماً. فإذا أراد شعب مصر الآن مثلاً الانفصال عن القومية العربية وإقامة كيان مصري يستمد قوامه وأسسه من تاريخ مصر ولهجتها وعاداتها وسجاياها.. بصورة منفصلة عن بقية الأقطار العربية، تعتبر هذه الحركة مخربة تهدف إلى قبر القومية العربية في مصر وتحطيم كيانها. ولا ينفع في عدم معارضة هذه الحركة للقومية العربية ما قدمه المصريون من خدمة للقومية العربية وما بذلوا من جهاد في سبيلها وما أقاموه من وحدة بين بعض أجزائها. وإذا كان هذا هو الحال في حركة التجزئة فكذلك الحال في حركة القومية العربية فأنها حركة مخربة هادمة للإسلام ولا ينفع في صحتها وصوابها وعدم معارضتها ما بذله العرب من جهاد وخدمة في سبيل الإسلام، بل ان أولئك العرب الآخرين كانوا بلا ريب محاربين لهذه الأفكار التخريبية عند ظهورها في عصور الإسلام الطويلة.
وثالث هذه المؤيدات (ان النبي كان يعتز بالأمجاد القومية) وهذا أيضاً لا يعني شيئاً من عدم معارضة الإسلام مع القومية العربية فإن النبي2 لم يكن يعتز بها كأمجاد قومية عربية بل كان يعتز بها كأمور صحيحة أقرها الإسلام وطالب بها ولم تكن تلك الأمور مختصة بالعرب فقط فقد روي عن النبي2 إنه قال (ولدت في زمن الملك العادل كسرى نوشروان) ولا يعني ذلك على تقدير النبي للعدل لا افتخاراً بأمجاد فارس وقوميتهم. والشيء الصحيح صحيح سواء وجد في العرب أم في أي جماعة أخرى فليس اعتزازه بذلك الحلف في الحقيقة إلا تمجيداً لما كان يحققه من العدل والأنصاف لا من جهة إن العرب هم كانوا أهل الانصاف أو غيرهم.
ورابع هذه المؤيدات (صحة إطلاق لفظ المسلم على القومي المعتز بقوميته، مع عدم صحة إطلاق هذا اللفظ على الملحد الشيوعي مثلاً) . وهذا أيضاً كالمؤيدات السابقة لا يعني شيئاً من عدم التناقض بين الإسلام والقومية العربية. فإن لفظ المسلم يطلق على كل من شهد الشهادتين سواء كان يؤمن بعقيدة الإسلام بواقع حاله أو لا يؤمن وسواء كان يتبنى جميع أفكار الإسلام وأحكامه ومفاهيمه أم لا يتبناها.
وهناك كثير من الأفكار الكافرة التي يتبناها المسلمون ومع ذلك لا يخرجون عن كونهم مسلمين وإن كانوا يتبنون أفكاراً كافرة ويعاملون لها؛ فالديمقراطية مثلاً فكر كافر وانها تقوم على أساس وضع السلطات التشريعية والتنفيذية بيد الشعب، والإسلام يقوم على اساس وضع السلطات التشريعية والتنفيذية بيد الشعب، والإسلام يقوم على أساس وضع السلطة التشريعية بيد الله، كما إنها تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة والإسلام لا يقر هذا الفصل. فهي فكر كافر إلا أنها يعتنقها المسلم لغفلة أو شبهة ويطلق عليه لفظ المسلم إلى أن ذلك لا ينافي كونها فكراً كافراً لا يجوز تبنيه والعمل لأجله. وكذلك الحال في القومية العربية فإنها فكر كافر الا أنها يعتنقها المسلم لغفلة أو شبهة ويطلق عليه لفظ المسلم إلا أن ذلك لا ينافي كونها فكراً كافراً لا يجوز تبنيه والعمل لأجله. وكذلك الحال في القومية العربية فإنها فكر كافر كما أوضحناه قد يتبناه المسلم ويطلق عليه مع ذلك لفظ المسلم، بل إن لفظ المسلم قد يطلق على من لا يؤمن بالإسلام أبداً كما هو الحال في إطلاقه على المنافقين فقد كان النبي2 يعاملهم معاملة المسلمين مع شهادة القرآن على كذبهم في دعواهم بتبني الإسلام قال تعالى }إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يهد إن المنافقين لكاذبون{.
وقد ذكرت الأوراق مضافاً إلى هذه المؤيدات عاملين كان لهما ـ بحسب دعوى الأوراق ـ في نشر فكرة التناقض بين القومية العربية والإسلام (الأول المفهوم الاستعماري الغربي عن الإسلام حيث حاول الاستعمار أن يطبع الإسلام بالطابع الكنسي للدين ذلك الدين الضيق الذي يتصادم مع كل شيء في الحياة ومع كل فكرة جديدة اجتماعية وعليه مع ان الإسلام دين واسع رحب لأنه نظام اجتماعي وفلسفة حياتية وقواعد اقتصادية). وإنه لمن الغريب جداً أن يكون المفهوم الاستعماري عن الإسلام دليلاً على نشوء فكرة التناقض بين الإسلام والقومية العربية مع أن القومية العربية لم تتم إلا على أساس إن الإسلام دين لابد أن يكون ضمن حدود المسجد في إطار المثل الروحية وبالتالي فلا بأس من شموله لقضايا النكاح والطلاق... بل لا يمكن أن تقوم القومية العربية إلا على أساس هذا المفهوم الاستعماري فإن الإسلام إذا كان ديناً واسعاً رحباً ونظاماً اجتماعياً واقتصادياً فكيف يمكن أن يتلاءم مع نظام اجتماعي آخر؟.. إن الإسلام إذا كان نظاماً اجتماعياً فهو لا بد أن يكون متعارضاً مع كل نظام اجتماعي آخر ويكون في هذا المفهوم الصحيح عن الإسلام معبراً عن التنافي بين القومية العربية والإسلام.
وما قولة القوميين وغيرهم (الدين لله والوطن للجميع) إلا دعوة لفصل الدين عن الدولة والسياسة وحصره في ميدان الاعتقاد الشخصي وما أشبه ذلك... تلك الدعوى التي بشر لها الاستعمار وأعمل نفوذه السياسي والعسكري لتحقيقها. ولعل كاتب الأوراق إنما جاء بذلك تمويهاً عن الواقع الذي يدعو إليه القوميون وأول دليل على ذلك تصريح القوميين أنفسهم بأن الدين إذا أريد به نظام اقتصاد وسياسة وأسرة فهو يعارض القومية العربية كما يتضح ذلك بمراجعة كتاب (مع القومية العربية).
الثاني: (المفهوم الشعوبي عن العرب حيث نشأ في تاريخ الإسلام بعض الشعوبيين). ونحن بطبيعة الحال لا نقر الشعوبيين ـ إن صح ذلك ـ على استهانتهم بالعرب وبأمجادهم لأن العرب كما أكدنا عليه جماعة فيهم الصالح والطالح والمسلم والكافر والمؤمن والمنافق... والهجوم عليهم وشتمهم كمجموع يعني شتم هؤلاء الصالحين منهم أيضاً وهو شيء لا يقره الإسلام أبداً. إلا إن ذلك لا يعني ان للشعوبيين أثراً في نشر هذه الفكرة إذ التعارض قائم بين القومية العربية والإسلام مع قطع النظر عن هؤلاء الشعوبيين وخططهم وهذا شيء أوضحناه جلياً فيما سبق.
كما أن الجدير بالذكر أن الشعوبية في الأيام الأخيرة أصبحت وصمة لكل داع أممي ولكل مسلم يدعو إلى الإسلام ويقول بتعارض القومية العربية مع الإسلام.
ولقد تعرضت الأوراق إلى موضوع الوحدة الإسلامية والوحدة العربية محاولة لتبرير دعوة القوميين العرب إلى الوحدة العربية دون الوحدة الإسلامية، والبحث في موضوع الوحدة الإسلامية والحدة العربية تارة يكون بلحاظ الفكرة التي تقوم عليها الوحدة العربية وأخرى بلحاظ إن الوحدة العربية هي الاسلوب الأقرب إلى واقع العرب المسلمين وبتعبير آخر، إن هناك سؤالاً هو: إلى ماذا يجب أن ندعو هل إلى الوحدة الاسلامية أم إلى الوحدة العربية؟ والجواب على هذا السؤال تارة يكون بلحاظ ما تفرضه علينا فكرتنا الإسلامية وأخرى بلحاظ ما يفرضه علينا واقعنا الإسلامي. وننظر إلى الموضوع من كلتا الناحيتين معاً. أما عن الناحية الفكرية فقد عرفنا سابقاً إن الوحدة الحقيقية هي الوحدة التي تقوم على أساس الأفكار لا على أساس أي شيء آخر وإن المائز الرئيسي بين الأمم هو الأفكار والمشاعر، وعلى طبق الأفكار والمشاعر تحدد العلاقات بين أفراد الأمة وأبنائها. وليس التاريخ واللغة مما يمكن أن يكون أساساً لهذه الوحدة والعلاقات وإذا كان الأمر كذلك فالوحدة يجب أن تكون وحدة إسلامية، ودعوتنا إلى الوحدة يجب أن تكون دعوة إلى الوحدة الاسلامية فأن جميع الشعوب الإسلامية تربطها وحدة فكرية صحيحة هي وحدة العقيدة الإسلامية التي ترتكز عليها جميع الأفكار والمفاهيم والأحكام الإسلامية. وما يبدو في هذه الوحدة الآن من الانحلال والتردي إنما هو شيء ناشيء بلا شك من قيام دعوات تدعوا لي الأفكار غير الإسلامية كالدعوة إلى القومية والديمقراطية والوطنية، ولا فرق ثم بين أن تقوم هذه الوحدة بين العراق وإيران أو بين العراق وسوريا ما دام أساس الوحدة هو العقيدة الإسلامية، لأن ارتباط كل من إيران والعراق كارتباط سوريا والعراق من ناحية الفكر والعقيدة.
ونحن بتأكيدنا على ذلك لا نحاول إنكار المشاعر القومية والوطنية الموجودة الآن في الشعوب الإسلامية إلا إن هذا لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً لأن وجود هذه المشاعر لا يبرر الدعوة إلى غير هذه الوحدة الفكرية الصحيحة بل إن حال هذه المشاعر كحال المشاعر (المذهبية) والاقليمية التي لا تبرر الدعوة لإقامة وحدة مذهبية وإقليمية. فإذا كنا مسلمين حقاً فلا بد لنا من بعث الروح الإسلامية في هذه الشعوب وإقامة وحدة إسلامية متماسكة بينها.
هذا من الناحية الفكرية. وأما من الناحية العملية فقد يقال كما قالت الأوراق إن الظرف الحاضر يفرض علينا أسلوباً خاصاً في طريقتها إلى الوحدة الإسلامية الشاملة وذلك بأن ندعو إلى الوحدة العربية ويكون ذلك كتعهد لتوحيد الشعوب ثانياً ـ نعم قد يكون ذلك ـ وقد نسلم به مبدئياً إلا أن هناك فرقاً واضحاً بين الدعوة إلى الوحدة العربية على أساس كونها أسلوباً وطريقاً يفرضه علينا الظرف الدولي وبين الدعوة إلى الوحدة العربية كغاية وهدف نصل إليه ثم نقف عنده. وهذا الأخير ما يدعو إليه القوميون.
وبيان الفرق إن الفرض الأول يقوم على أساس أن العامل الذي يجب أن تقوم عليه الوحدة بين الشعوب العربية هو العامل الفكري أي الإسلام فهي في الحقيقة تكون وحدة إسلامية بين الشعوب العربية وليست وحدة عربية. وهذا بخلاف الفرض الثاني؛ فان العامل فيه الذي يوحد هذه الشعوب هو العامل القومي فهي وحدة عربية بين الشعوب العربية فليست أسلوباً للوحدة الإسلامية بل تكون في الحقيقة ابتعاداً عن الإسلام ومفاهيمه بعد أن اتضح مدى التنافي بين الإسلام والقومية العربية. وبيان آخر: إن المقصود بالوحدة الإسلامية فحسب على أي شكل كان قائماً ذلك التوحيد بل المقصود بالوحدة الإسلامية هو الدعوة إلى توحيد هذه الشعوب على أساس الإسلام أي أن يكون الكيان السياسي الموحد قائماً على أساس مبدأ الإسلام، وأيّ وحدة تقوم على هذا الأساس تكون وحدة إسلامية من دون فرق فيها بين أن تكون قائمة بين شعب عربي وآخر غير عربي وأن تكون قائمة بين قطرين عربيين. فإذا كانت هذه حقيقة الوحدة الإسلامية فلا يمكن أن تكون الدعوة إلى الوحدة العربية أسلوباً لاقامة الوحدة الإسلامية لأن الدعوة إلى الوحدة العربية تعني بعث العامل القومي وإقامة الكيان السياسي على أساسه واعتباره العامل الصحيح الذي يوحد هذه الشعوب، وبهذا العمل نكون قد ابتعدنا عن هدفنا الأساسي وهو إقامة الوحدة الإسلامية بابتعادنا عن الإسلام نفسه الذي هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الوحدة.
وإذا أردنا أن نتناول مسألة تعارض الإسلام مع القومية العربية في ضوء تصريحات الدعاة القوميين أنفسهم واعترافاتهم بغض النظر عن المقايسة الفكرية بين الدعوتين إنه لو أردنا ذلك لوجدنا ان رواد القومية العربية ودعاتها يصرحون في مناسبات كثيرة بتعارض الإسلام مع القومية العربية وفصله عن الميدان الاجتماعي والسياسي للعرب ولا يعدم الداعية الشواهد الكثيرة على ذلك فالكتب والمجلات والجرائد القومية حافلة بهذه التصريحات.. ففي مقال لعبد الله عبد الدائم تحت عنوان (إنسانية لا أممية) يصرح بتعارض الدعوة الأممية مع الدعوة القومية وبالأخص دعوة الإسلام الأممية. كما إن في كتاب (مع القومية العربية) تصريحاً بذلك كما أشرنا إليه.. إلى غير ذلك من التصريحات.
وواقع القومية العربية الدولي اليوم شاهد آخر على هذا التعارض القائم بين الإسلام والقومية العربية.
نشر الدعوة الإسلامية العدد الرابع 1962م