كي نجيب على السؤال، لماذا اضحى الحب ضرورياً، لابد في البدء من دراسة الحالة الانفعالية للشخص الذي لم يصبح محباً بعد لكنه سيصير، ذلك ان منطلقات واضحة ومحددة لابد ان تتواجد داخل هذا الشخص فتجعله مستعداً للغرام.
بيد ان سؤالنا، كيف يبدو المحب المقبل، ليس فيه من المعقولية الا بقدر ما في استفسار البنت الصغيرة: «ماما، كيف يبدو اللص؟» فالجواب عسير، اذ يمكن ان يكون طويلاً او قصيراً، سميناً أو نحيلاً، اشقر او اسمر. وبالمثل، فان من الصعب القول كيف يبدو الاشخاص قبل ان يصبحوا مغرمين.
ان القلق، والفزع، والاستياء الملحوظ قبل بزوغ الحب هي اعراض ثابتة في سيكولوجيا هذه الحالة، وهي طرف الخيط الذي يفضي الى لب الاشكالية، ومهما اختلفت الحالات باختلاف الافراد قبل ان يجدوا انفسهم مغرمين، فان السمة المشتركة هي هذا الاستياء. وبالطبع فان عمق هذا المزاج يتنوع الى ابعد حد، من الاضطراب الخفيف الى الضيق الحاد، ومن الانزعاج الذي نادراً ما يحس الى الزلازل الانفعالية.
لقد وقع روميو في حب جولييت كرد فعل مباشر على اخفاقه مع روزالين، وقبل ان يلتقي جولييت كان ضحية لسوداوية عميقة.
الحب فرار من الذات، ترياق للنفور منها، وفي بعض الاحيان ترياق حتى لكره الذات الذي يشعر به المرء.
كتب باسكال مرة ان النفس كريهة، ويبدو ان مثل هذا الشعور بالنفور من الذات او حتى كرهها يظهر دورياً لدى كل من يترعرع في نموذجنا الثقافي.
وظهور هذا العامل الانتقادي الذاتي وتكرر ظهوره هو سمة لها دلالتها لدى الاشخاص الطموحين الذين يتشددون على انفسهم بالمطالب. ان سوء ظن المرء بنفسه وعدم ثقته بها، والشعور بالنقص، والرغبة في ذات افضل هي خطوات تمهيدية ضرورية لتطور الحب، الذي هو محاولة لاعادة توطيد تقدير المرء لذاته. اما اذا كنا راضين عن انفسنا، فلماذا ننشد ذاتاً اخرى افضل ونسعى خلفها؟ الحب يعقب النفور من الذات، وهو يتلو الهمود وفي بعض الاحيان يتلو اليأس. ومن خلال شدة الحب يمكن لنا ان نقدر قوة الشعور بالنقص التي دفعت الناس في الاتجاه الاخر.
ان عدم الانسجام ضمن الذات مشروط بمقارنة لا واعية بين ال«أنا» الفعلية والشخص المثالي الذي نود ان نكونه، والذي هو اكثر وسامة، وأفضل، وأذكى، وأشجع، وأكثر فعالية مما نحن عليه. وكل واحد تقريباً يخلق في اواخر طفولته صورة لمثل هذه الذات الاسمى، والتي ندعوها مثال الأنا. وهذه الذات الخيالية، هذا الشخص الذي ليس نحن بل ما نود ان نكونه، ليس من خلق الذات وحسب، وليس مجرد نتاج لتخيل الفرد. فثمة اشخاص محددون في حياة كل طفل يتخذهم بمثابة نماذج، كالاطفال الذين يمتدحهم الاباء والمدرسون والذين يبدون كما لو انهم قد حازوا على الفضائل كلها وححقوا كل ما هو بعيد عن المتناول. وفضلاً عن هؤلاء الاشخاص الواقعيين، فان اشخاصاً متخيلين يؤثرون على الطفل من خلال قصص الاطفال وكتبهم. وتصبح هذه الشخصيات القصصية موديلات يود الطفل او المراهق ان يصوغ شخصيته على غرارها. ونحن ندعو هذه الشخصيات موديلات الأنا.
بيد اننا استبقنا ذروة التطور الانفعالي، نحن لا نزال في ميدان الاستيهام، اما الواقع، ومعه تحقق هذه الاحلام، فلا يزال نائياً.
وفي بناء مثال الانا نحن مقيدون الى الشعور بالفجوة بينه وبين ذاتنا الفعلية.
وكلما كنا اكثر طموحاً، كلما ازدادت حدة شعورنا بالهوة التي تفصلنا عن ان نصبح هذه الشخصية الحلمية، وتبين الخبرات التحليلية كيف تحل شخصية الحبيب لاحقاً محل الرغبة في ذات افضل، ويمكن لنا دراسة هذا التطور في قصة نشوء الحب لدى الاطفال.
وتتذكر شابة متزوجة كم كانت متيمة في طفولتها بفتاة اخرى. كانت معجبة بها وتود البقاء بقربها دوماً، لكنها كانت تخجل اشد الخجل من مقاربتها، وتشعر ان قلبها يخفق حين تنظر اليها الفتاة المحبوبة، وهلم جرا.
ولقد اعتادت قبل النوم ان تستحضر في مخيلتها صورة تلك الفتاة. وعلى الدوام كان حلم اليقظة السعيد هذا يبزغ باستيهام انها هي نفسها ستنهض في الغد وعلى رأسها تلك الخصلات الذهبية بدلاً من شعرها الغامق.
في آلاف الامثلة كهذا المثال ندرك ان المحبوب هو بديل، انه الوريث لمثال الانا، فهذا المثال، وقد انزاح من ذات خيالية الى شخص متخيل، يتثبت في النهاية على شخص بخصال «نادرة في روعتها الفريدة، ومدهشة في تضافرها».
وهكذا فان الوقوع في الحب يعني اسر صورة متخيلة، فالموضوع تم خلقه قبل ان يظهر، وكان حاضراً في الاستيهام قبل ان يتواجد في الواقع، وليس ثمة حب من اول نظرة لان كل شيء كان معداً من الناحية السيكولوجية، والوقوع في الحب يعني ملاقاة الصورة المتخيلة، وهذه الصورة هي التي تملي اختيار الحب.
ان الصورة الحلمية لشريكنا المقبل تعيش وجوداً مديداً، مبهماً. فنحن جميعاً كنا في البدء نحب الحب. والانتقال من الصورة المثالية الى الموضوع الواقعي هو سيرورة يسيرة وغير حرجة، خاصة لدى الرجال. ولقد شكت فتاة كانت قد رأت شاباً محدداً مرة واحدة من انها تتمنى لو ان بمقدورها وضع حد لاحلام اليقظة المتعلقة به. «لا أعرفه، وليس لدي عنه سوى القليل القليل كي انشغل باسيتهامات تدور حوله، انني استبق الواقع الى حد كبير. لعله ليس كما اتخيله. اريد ان اقابله ثانية فعلي ان اعرف كيف والى من تتجه احلام يقضتي». ان هنا بعض الواقعية في قلب الشعور الرومانسي، اما الكثير من الشباب الذكور فهم اقل واقعية، لكن موضوع الحلم يكون موجوداً لدى كلا الجنسين قبل الموضوع الواقعي، وحضور الحلم يولد امنية وارادة لقائه مجسداً، انها رغبة شبيهة برغبة كاتب مسرحي يريد رؤية الشخصيات التي تصورها تظهر وتتحرك على الخشبة الواقعية، اما رافع الستارة عن مثل هذا العرض فهو دوماً تشديد حلم اليقظة المتعلق بمثال