فجاءته احداهما تمشي على استحياء
بعد ان سقى موسى عليه السلام للفتاتين اغنامهما تولّى الى ظل شجرة ، وكان شديد الجوع لم يأكل منذ عدة ايام الا بعض البقول التي يجدها في الطرق حتى تغير لونه ، وعندها عرض عليه السلام حاجته بطريق غير مباشر علّ الله عز وجل ان يرزقه ويطعمه ، قال الله عز وجل «فسقى لهما ثم تولى الى الظل فقال رب اني لما انزلت الي من خير فقير» قال العلماء « فعرّض بالدعاء ولم يصرح بالسؤال» ، و«هكذا روى جميع المفسرين انه طلب في هذا الكلام ما يأكله». و«تفسير القرطبي ج13ص270».
ثم تمضي الآيات الكريمة في عرض قصته عليه السلام مع سيدنا شعيب وابنتيه ، يقول الله عز وجل: «فجاءته احداهما تمشي على استحياء قالت ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا ، فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، قالت احداهما يا ابت استأجره ان خير من استأجرت القوي الامين» وفي هذه الآيات وما بعدها عظات وعبر ودروس واحكام تنظم الحياة الاجتماعية ، وتمهد سبل الزواج العفيف الذي يبني الاسرة الكريمة وينشىء المجتمع الصالح ، وينشر السلام ودين الله في الارض ، جاءته احداهما تمشي على استحياء ، كانت فتاة حييّة خفرة ، قال المفسرون: «ولم تكن سلعفا من النساء خرّاجة ولاّجة» وهذا بلغة اليوم لم تكن جريئة على الرجال ، تخرج وتعود دون رقيب ولا حسيب ، ودون سبب في غالب الاحيان. والحياء هو اجمل ما في المرأة ، وحياء المرأة جمالها ، واستقامتها عنوان شخصيتها.
ان المرأة التي تمشي قاصدة الى هدفها ، غاضة بصرها ، يحترمها كل الناس ، ولا يجرؤ على اعتراضها اشرّ الناس ، اما المرأة التي تخضع بقولها ، وتتكسر في سيرها ، وترفع من صوتها يتقحمها كل الناس ، ولا يحترمونها ، جمال المرأة عفتها واستقامتها وسلوكها القويم ، وهذا امر معروف يدركه كل الناس ادراكا تاما حتى هؤلاء الذين يجاهرون بمخالفته.
وانظر الى قوله عز وجل: « قالت ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا» لم تزد ولم تنقص من الرسالة التي بعث بها ابوها اليه ، ولم تغتنم الفرصة لتختلق حديثا طويلا لا داعي له ، بل ربما كان له داع يكشف عن الرغبة في الحديث ، وفتح باب الكلام ، والتحدث عما كان وما سيكون ، مما يطمع الرجل في المرأة ، ويكشف له عن استعدادها لما قد تحدثه به نفسه من شر.
وني اذكر القارىء الكريم بما تكتبه القصص اليوم ، وما نسمعه في الافلام ، من مثل هذه المواقف ، كيف ينفقون صفحات طويلة ، او ساعات عديدة في مثل هذا الحوار الذي لا هدف له الا اثارة الغرائز وتهيئة النفوس الى سبل الشيطان ، ان القرآن يعلمنا كيف نسير في حياتنا وفي سلوكنا ، هو يصنع لنا حوار الحياة بكل مرافقها ، من زواج وسفر واقامة وتجارة وخدمة في البيوت ووظائف وحكم وادارة ، كل ذلك يجري بترتيب الهي كامل ، يصنع المجتمع ، ويبعد عنه شرور الشيطان حتى عندما ارادت المرأة «في قصة يوسف عليه السلام» ان تدعو الرجل اليها وتراوده عن نفسه «غلقت الابواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله» تصوير للحقيقة دون خوض في التفصيلات المثيرة ، ولعل كثيرا من القراء الكرام قرؤوا القصص الرومانسية التي كان يكتبها بعض الادباء الرومانسيين ، وكيف كانوا يجعلون من مثل هذا الموقف مثارا لاستفزاز المراهقين والمراهقات ، وعندما كانت تتحول تلك القصص الى افلام ، كان هم المخرج ان يبرز هذه المظاهر وينسى هدف القصة الاساسي ان كان لها هدف ثمة غير هذه الاثارة.
«قالت ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا» وسارت الفتاة خلف موسى عليه السلام تدله بصوتها على الطريق ، حتى وصل الى بيت شعيب فاستقبله واستمع اليه قصة خروجه من مصر واسبابها ، فقال له «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» وفي هذه الآية الكريمة دليل قاطع على ان مدين واهلها لم يكونوا من قوم فرعون ، ولم يقعوا تحت سيطرة فرعون ، لانه قال له نجوت من القوم الظالمين ، وهنا ثارت في نفس الفتاة العفيفة رغبة في اراحة والدها الشيخ ، وفي توفير سبل الحياة الهانئة له في هرمه ، فقالت «يا ابت استأجره ان خير من استأجرت القوي الامين» وقد شاهدت قوته عندما سقى لهما. ولمست امانته عندما سار معها الى بيت ابيها ، فلم يكلمها كلمة غير مناسبة ، ولم تكلمه الا بما يدله على الطريق ، وفي هذا دليل على امانة الرجل «عليه الصلاة والسلام» وقوة شخصيته واستعداده لما هيأه الله له - بعد - من مهمة النبوة والرسالة التي لمّا يعلم بها. وان في هذه الآية دليلا على شروط الولاية والاستخدام ، اننا يجب ان نولي الرجل القوي الامين ، القوي على القيام بوظيفته ، القوي بعلمه وبعمله وبادراكه وتجربته والامين بخلقه وسلوكه واخلاصه وامانته ، ولعمري لو ان هذه القاعدة اتبعت في كل ما يجري في مجتمعنا من تعيينات ووظائف اذن لكان المجتمع سعيدا مشرقا ...