وردة الرمال
كانت الصحراء تكاد تبتلعهما و السيّارة تندفع بين أمواجها بجنون. كلّ ّ شيء كان يوحي بطبيعة أجمل و هواء أنظف ممّا خلّفاه وراءهما ، أخيرا كان من حقّّهما أن يستكتشفا مكانا بلا ضجيج.
كان شرودها أكثر من محيّر و كأنّها تحاول الهروب من شيء في داخلها بكلّ تلك المسافات و بموسيقى علا التي كانت تنساب في أجواء السيّارة لتخلق داخلها عوالمها الساحرة الجميلة بكلّ ما يبدعه هذا الفنّان الكبير محاولا رسم قوافل الجمال و كثبان الرّمال و أسرار الأشياء.
تتوقف السيارة ، يكون هو أول من ينزل لاستكشاف المكان..نظراته توحي برغبة شديدة في امتلاك هذا الهواء النّقي..ينظر إليها مشيرا لها للالتحاق به.. تنزل كمن يحاول التأكّد من وجود قدميه بعدما اعتقدت بأنّها فقدتهما إلى الأبد.
يمدّ يده إليها فتمدّ له يدا نحيلة مرتجفة ، يتأمّلها طويلا و كأنّه يحاول تركيب الصورة : هذه الصحراء و هذاه الملامح الحزينة ليتمتم:
_ أخيرا ها نحن حصلنا على الهدوء الذي بحثنا عنه.
تشيح بوجهها عنه و هي تحاول أن تمشي مسافة أطول ، تحاول أن تصل بقدميها إلى أعمق ما يمكن في تلك الرمال..تجلس أخيرا و كأنّها حطّت من كوكب خارجي بعد طول تحليق.
هو الآخر يرمي بثقله على تلك الرمال ليتأمّل الأجواء و كأنّها شيء خارق للعادة وهبته الطبيعة لهذا المكان وحده دون كلّ الأماكن في العالم. كان هو يسترق النّظر اليها وهي تحاول أن تغلّب شعورا على نفسها بأنّها وحيدة في المكان، لا بل أنّ المكان كان مملكتها لا يشاركها فيه أحد.
كان هو يفهم كلّ هذا ، موسيقى روحها كانت تصله نوتة نوتة،فهو الذي طالما عزف على أوتارها بإتقان، موسيقى كانت تدغدغ أعماقه و تعيد شريط الذكريات. يحاول أن يقول شيئا يكسر هذا الصّمت ليبعث في الأجواء شيئا من الحياة:
- لماذا هذا الصمت؟
تحاول أن تجيبه ، لكن شيئا يخرس لسانها ، يقترب منها أكثر و هو يسلّمها حفنة رمل ليقول:
- هذا ما نملكه في هذه اللّحظات.
تبتسم لتنطق أخيرا: و أنا لا أريد أكثر من هذا.
- تشعرين بتحسّن؟
- هذا أجمل ما يمكن أن يحدث ، أن أشعر بأنّني بعيدة عن كل تلك الوجوه و كلّ تلك التفاهات.
- حاولي أن تنسي كلّ شيء، جئنا لنخلق عالما خاصا بنا.
- ياه، يا أحمد من كان يصدّق بأنّ وراء تلك الكثبان الرملية هذا الاخضرار و هذه الواحة من النّخيل.
- إنّها الصحراء، غريبة و أسرارها كثيرة
- لكن ، لماذا نصبت كلّ تلك الأعداد من سعف النّخيل على الكثبان؟
- لوقف زحف الرمال و العملية تسمّى تزراب.
- و هل تزحف الرمال؟
- نعم ، هذه تسمّى الرمال المتحرّكة تزعج الأهالي كثيرا فينظّمون "تويزة" أي عمل تطوعي جماعي لوقف زحفها بهذه الطريقة التي ترين، و الآن هيّا نواصل الطريق.
انّه اكتشاف يحيلها على زمن الدهشة و الأسئلة الكثيرة، و تتحرّك مع تلك الرّمال رغبتها في معرفة المزيد عن هذه المنطقة خاصة و هي ترى أذرع الرمال تمتد لتصل إلى أسقف المنازل و إلى وسط الطريق المعبّدة و سيارتهما تخترق المكان. يسألها:
- ما بك؟
- ليتنا بقينا جالسين على تلك الرمال.
- لكن يجب أن نصل في الوقت المناسب.
تتطلّع بعينيها إلى مساكن الطين التي كانت تبدو كما الشيوخ المسنين يلتصقون بالماضي و يستحضرونه في ملامحهم و في كلّ شيء .
أخيرا ها هو بيت عمّي مبارك قد يكون في الداخل و قد يكون في بستانه الصغير ،
يطرق أحمد الباب لتخرج صبية في العاشرة تطلق صرخة:
- الطبيب، الطبيب
ليسمع من الداخل صراخ أطفال وكأنّ شيئا غير مرغوب فيه حضر.
لا تفهم زينب شيئا ، لكنّ أحمد يبتسم و هو يتمتم :
- أحيانا يضطرون لإخافة الأطفال بالطبيب الذي قد يعاقبهم بالحقنة ، و الحقنة غول عند الأطفال.
ويخرج عمّي مبارك مرحبا:
- مرحبا ، مرحبا
- كانت الفرحة تنطق من عينيه و هو يقول:
- الطبيب عندنا هو و أولاده ؟- مشيرا الى زينب- مرحبا يا سيدي مرحبا.
تتطلّع إليها الصغيرة و هي تتأمّل فستانها الأنيق و شعرها الأسود المسدول على كتفيها.
تنحني زينب لتقبّل الصبية ، يشير إليها عمّي مبارك أن تدخل إلى جهة النساء .
تقبّلها خالتي الزهرة و ابنتها الكبرى، تجلس زينب و قد غمرتها نشوة اللّقاء الجميل مع هذه القلوب الطيّبة.
تتأمّلها الصغيرة بنظراتها البريئة و ضفيرتيها الطويلتين، تمرّر يدها على رأسها لتسألها عن اسمها:
- نورة
هكذا تجيب الصغيرة ، تبتسم زينب ، تقبّلها و هي تقول:
-اسمك جميل يا نورة ، و أنا اسمي زينب.
و تظلّ عينا الطفلة ملتصقتين بهذه المرأة الشابّة لتفصح أخيرا عن سؤال يحيّرها:
- انت طبيبة؟