بقايا امرأة
انّه الربيع استقرّ أخيرا في راحتيك و رحت تشيرين للشمس أنّ الليل الذي أثقلك بسواده رحل ، لكن هل رحل معه ذلك الألم الذي أقضّ مضجعك و جعلك بقايا امرأة تنزوين الى ذكرياتك كيتيمة بأثوابها الرثة في يوم عيد تتطلّع الى ملابس الآخرين.
أرسلت شعرك على ظهرك خمائل تداعبها أشعّة الشمس و أنت تتحرّرين من قيد أجهزة الطبيب . كنت أنا لا أزال أبحث عن غرفتك و أنا لا أصدّق الخبر ، بعد عودتي من ذلك المكان البعيد وجدت كل شيء تغيّر من حولي ، حيّنا ، دكاكينه ، مقاهيه ، المكتبة تحوّلت الى محل لبيع الأكل الخفيف ، لا أحد لديه الوقت ليقرأ ، لا مكان للكتاب في حينا و من يمارس الكتابة مجنون أو هو شخص من مخلّفات القرون الماضية . حتى كسرة الخبز التي كانت تعبق برائحتها المنازل ، اليوم أصبح لخبز الدار مخبزة و المرأة أصبحت لها اهتمامات أخرى . تعثّرت في مشيتي و أنا تحت وابل من أفكار متضاربة . تطلّعت الى لا فتة في أعلى الجدار بتلك المستشفى
كتب عليها
مصلحة تصفية الدم- مرضى الكلى.
عرفت أنّه مكانك حبيبتي ، عرفت أنّه صار هو معبدك و ملاذك و حتى قبرك كما سميته في رسالتك الأخيرة..وجدت نفسي أتثاقل و لا أقوى على ولوج المكان و أنا منذ قليل كنت بحماس قرّرت زيارتك و المجيء اليك ، ألغيت كل ارتباطاتي حتى أراك قبل أن أسافر من جديد،فالسفر أصبح قدري. كنت في كل مراحل الدراسة تعلّمت منك الصمود و المثابرة و الطموح لأعلى المراكز ، و نجحنا ، بل تفوقنا. و كنت أنت القائدة و المرشدة ، كان نجمك يلمع يوما بعد يوم و الكلّ يحيطك بالاعجاب ، الكل يتمنى رضاك فبأمر منك تتغيّر أشياء و تنفذ أوامر..آخرون حاولوا تشويه سمعتك و الصاق التهم بك عن الطريقة التي وصلت بها الى ذلك المركز القيادي، وحدي أنا كنت أعرف كم كنت شريفة و كم كنت عظيمة ، كنت السند لأسرتك ، للجيران ، لأبناء الحي ، لكل ضعيف..لكنّ المرض باغتك و نال منك و انفضّ الجميع من حولك. صرت وحيدة ، لا أحد بحاجة اليك ، حتى أقرب الناس اليك.
عندما بلغني الخبر لم أصدّق أنّ امرأة بقوّتك و ارادتك الفولاذية تنتهي هكذا فجأة.
استجمعت قواي لأدخل ذلك المكان و لم أعد أدري هل كانت تتصاعد منه رائحة الموت، أن لا أمل لهؤلاء الممدّدين على الأسرة هنا أم عكس ذلك كانت الحياة هنا تفتح لهم نافذة أخرى بتلك الكلى الاصطناعية . أنت تعرّفت عليّ حبيبتي ،أمّا أنا فلم أتعرّف عليك لذلك فاضت دموعك و أنت تناديني، تعرّفت على صوتك الذي قطّعه البكاء ، التفت ناحية مصدر الصوت لأرى وجها رماديا شاحبا ، لا أثر للجمال الذي حسدت عليه، لا أثر لذلك البريق الذي كان في عينيك ينير لي الطريق الى الغد. آه حبيبتي ،الآن أدركت حجم ألمك ، الآن تبكين أنت و أبكي أنا أيضا من هول الصدمة، عانقتك علّي أفرغ كلّ ألم فيك ، لكنّك أوجعت قلبي و أنت تهمسين في أذني : انتهيت ، صديقتك انتهت... و لم أدر كيف صرخت في وجهك أنّك لم تنته ، سنجد متبرّعا بكلية ، ستتعافين ، أنت من علّمنا الصمود و التمسك بالأمل الى آخر لحظة.
لكنّك انفجرت ضاحكة ضحكة هستيرية ، لتخنقك الدموع و قد عرفت من الطبيب أن لا أمل لك....لست أدري لماذا حينها أحسست بثلج يكتسح جسدي ، يجعلني أتأمّلك و أنا شبه فاقدة القدرة على الكلام ، أيعقل أن تكوني فعلا كما قالوا عنك تحوّلت الى بقايا امرأة؟
بقلم : جميلة طلباوي