أوجاع الذاكرة
كنت أرتب أشيائي في درج من أدراج ذاكرتي المثقلة بالأحداث والهموم، وكانت هي منشغلة بتحضير حقيبة سفرها، كان معطفها آخر شيء تحمله، مدت يدها إليه وكأنها أخيراً عثرت على مرفأ، على دفء يخلصها من برد الحياة وما لبث هو أن غمرها وحولها إلى امرأة من نوع آخر، بمظهر كلاسيكي جميل .
رمقتني بنظراتها الغامضة ، ربما كانت تنتظر تعليقا مني ..أو رد فعل يخلصها من قلقها...أنا كنت فقد ت قدرتي على الحركة و على الكلام ،كنت أتصور بان العمر كله اختصر في هذه اللحظة وأنها بحماقتها سلبتنا الحياة ،أنا و هي على حد سواء.
أخذ معطفها يبتعد أكثر و حقيبتها تحاول الإفلات منها،هل يعقل أن يختصر معطف امرأة بكل ماضيها،بكل أحلامها و أن ينهي أي انتماء لها لملامحها....
ما لا اذكره إن كانت ودعتني، إن كانت قالت كلمة توحي بالوداع أو بأمل في اللقاء...الصوت الوحيد الذي اذكر سماعه ،صوت قوي مدو أحدثه الباب الذي أغلقته بقوة وهي تغادر ،اهتزت له النوافذ و سقطت من أعلى الجدار صورتنا أنا وهي ....تحول زجاج الإطار الذي ضمها سنوات الى شظايا.
أهي سخرية القدر أن تسقط تلك الصورة في هذه اللحظة بالذات.
المكان كله ضاق ،لم اعد اشعر إلا بالاختناق،الهواء يتناقص في حجرتي ،إنها ذاكرتي المزعجة تصعقني بثلوجها وعواصفها وتستحضر ملامح "آية" بكل براءتها التي ترعبني كالتلميذ البليد يحاول أن ينقذ نفسه من امتحان يتوقع الرسوب فيه.
كيف سأبرر لها انفصالي عن والدتها ،كيف سأشرح لها ذلك ،كيف سأجيب عن أسئلتها الكثيرة؟
كل هذا يذبحني و يحوّلني الى كرة من الألم ملقاة على سرير بارد بليد.
الطبيعة هي الأخرى كانت تعيش مأساتي ،الريح في الخارج تعصف بقوة وكأنها تريد اقتلاعي من هذا المكان الموحش،أو أنّها تريد زعزعة شيء بداخلي ، أيّ أمر يحدث يجعلها مجنونة منذرة بنهاية لست أدري بأيّة ألوان ستكون؟
هل يعقل أن ينتهي كل شيء بهذه القسوة ونجد أنفسنا على صخرة وسط بحر متلاطم الأمواج، يا الهي ما الذي يحدث لي، أ هي لعنة البتول حلت بي ؟
البتول الهادئة الجميلة ،لم تكن مجرد ابنة خالة لي بل كانت مدينة بكاملها وجدت لأجلي أنا وحدي ،كانت تسعد بتحضير كل شيء تراه يسعدني من أكلات تقليدية ،من أشياء بسيطة تصنعها من القماش ،فلقد كانت مبدعة في كل ما هو تقليدي في مدينتنا.
كانت إذا حضرت الى بيتنا تملؤه دفئا حتى أنّ والدتي كانت تعتمد عليها في البقاء معنا أنا وإخوتي لرعايتنا والاهتمام بنا إذا ما اضطرت للسفر ،فأختي الصغرى حبيبة لم يكن يعتمد عليها.
البتول بضفيرتها الطويلة ووجهها الصبوح كانت أما لنا رغم صغر سنها كانت تملك خزانا من الأمومة يخيل إلي بأنه يكفي العالم كله، لكن الأكيد أنها كانت تحمل لي عاطفة خاصة...كنت أحمقا إذ لم أكن أدرك حقيقة مشاعرها اتجاهي ،حتى لما حصلت على شهادة البكالوريا وقدمت لي هدية طرّزت عليها اسمي بلون احمر جميل لم افهم شيئا ،فلقد كنت أقنعت نفسي بان البتول هي أمي الثانية، وسافرت الى تلك المدينة "الغولة"لأواصل دراستي الجامعية،لأحقق حلمي وأصير طبيبا،اذكر أنني كنت كلما عدت في زيارة الى أهلي ومدينتي إلا و وجدت البتول في انتظاري بشوق و لهفة ووفاء.
كانت تطرح علي ألف سؤال عن صحتي و دراستي وأكلي وشربي ...وكل التفاصيل التي تجعلها تطمئن علي ،ولا أذكر أنني كنت أسالها عن أحوالها ،عما يسعدها ،عما يحزنها فلقد كانت تعاني من قسوة زوجة أبيها عليها ولا تجد طعم الأمان إلا عندنا،عند خالتها التي كانت تعوضها عن حنان والدتها رحمها الله.
لا أذكر انني واسيتها عندما لم تحصل على البكالوريا وضاع حلمها في الوصول الى الآفاق التي طالما رسمتها لنفسها، لقد كانت ترى المستقبل بألوان جميلة ،لكن الظروف العائلية لم تكن مهيأة لها كي تنجح وتحقق ما تمنت.
أذكر فقط بأنّني كنت الأحمق الأكبر في هذا العالم عندما قالت لي والدتي بحضور البتول:
- عندما تتخرج ،سنفرح بك ونقيم لك أكبر عرس.
يومها ضحكت و أنا أقول دون أن أبالي بالبتول:
- المهم أن توافق نادية على الإقامة معنا هنا في بشار.
ولم أكن أعلم بأنني ذبحت البتول بإجابتي هذه صعقتها فاحمرت وجنتاها وهي تسأل:
-"نادية"،"شكون نادية"؟
- الفتاة التي سأتزوجها إن شاء الله،هي طالبة معي في نفس الكلية.
ربما الخسارة لحظتها كانت بالنسبة للبتول مضاعفة،خسرت البكالوريا وحلم المستقبل وأدركت بأنها كانت تعيش على وهم حبي لهاو أمل الزواج مني.
سافرت بعدها وليس في ذهني سوى نادية والنجاح في دراستي...لقائي بنادية كان له طعم أخر،هي لا تملك حنان البتول وحرارة لقائها ،لكنها كانت امرأة كاملة بجمالها ،بذكائها وقدرتها على الوصول الى ما تريد ..كثيرا ما أزعجتني برودتها ،لكنني كنت أحتاجها كي تحميني من رومانسيتي الزائدة ،لقد كنت بحاجة لان أكون أكثر صلابة فهذه المدينة تتطلب قوة في الإرادة والعزيمة وصرامة في اتخاذ القرارات ونادية كانت عملية جدا ،لا وقت لديها تضيعه حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمشاعر ،فارتباطها بي كان على أساس انني أناسبها،انه اختيار العقل ..وأقنعت نفسي بأنها تناسبني ،فاختيار العقل وحده ينجح وكثيرة هي الزيجات التي بنيت على أساس العواطف سرعان ما استفاق أصحابها على صدمات الواقع و انتهت بالفشل و الطلاق.
رغم أنني لا أنكر بأنني كم تمنيت لو كانت تحمل جزء من عواطف البتول المشحونة بالأمومة والحنان والصدق،فأنا كنت بحاجة الى امرأة تمنحني هذا الإحساس ،لكنني تنازلت عنه في سبيل أن أكون رجلا صلبا ،ناجحا تقف الى جانبي امرأة صلبة ،صارمة في قراراتها .
حتى أهلها كانت لهم نفس طبيعتها، الحديث معهم يكون فيما هو مهم ومختصر، أمّا العواطف والمجاملات فلا وقت لديهم لها ...وسط هذا الصقيع حاولت أن أبني شخصيتي.
شرط والدها كان قاسيا على نفسي ،فهو لا يقبل أن تبتعد ابنته عنه ،كان يريد مني أن أقيم في مدينتهم وأبني مستقبلي هنالك ، لا يهمّه ما سيكلفني ذلك من عناء مادي و معنوي و بالأخص غربتي عن أهلي.
هل يعقل أن أكون قد شلّيت تفكيري وسلمت أموري وحياتي ليد تحركها ،فكان هذا مصيري ؟
هل يعقل أن أكون أخذت إجازة من روحي وتلبست شيئا آخر غير الروح وعشت به كل هذه المدة ،فلقد ضبطت مؤشر ساعة حياتي على الدراسة،ثم الدراسة ،ونجحت ،بل وتفوقت وتخصصت في أمراض القلب و جراحته لتفتح جراحات قلبي كلها ويسمع أنين أعماقي ...ونادية الى جانبي تحمسني و تدفعني الى الأمام والبتول هنالك تتقصّّى أخباري وتغمرني كلما رأتني بالدعوات ،لكن عينيا لم تعودا تريانها،ولا أذناي أصبحتا تستقبلان صوتها أو صوت أهلي.
كيف يعقل أن وصلت الى مرحلة لم أعد أستشر فيها أهلي ،لم أعد انتظر ردود هم ،كنت أقرر وأبلغهم قراراتي،كم كانوا صبورين معي ،المهم كان لديهم أن انجح و أن أكون سعيدا، لم أعد أحضر احتفالاتهم الخاصّة ولا عدت ككل بداية سنة جديدة أحتفل معهم ب "النّاير" وكان موعده الثاني عشر من شهر يناير ،تحضّر لنا فيه والدتي "المردود" أكلتنا الشعبية اللّذيذة ،تضع فيه نواة حبة من التمر ومن عثر عليها يتفاءل خيرا إذ ستحمل له السنة الجديدة الكثير من الأرباح والخيرات.
كنّا بعدها نسهر طويلا بقرب المدفأة حول صينية الشاي نأكل المكسرات ونتسامر ونضحك ونسعد بلحظاتنا.
أيعقل أن أكون ألغيت كلّ هذا الفرح من حياتي وسلّمت نفسي للجحيم يحرق لحظاتي ويحوّلها الى رماد؟
لم أعد أعرف نفسي ، وكأنّما انطلقت داخل نفق مظلم لأهرب من شيء لا مرئي.
كنت كلما وقفت أمام المرآة ،رأيت كائنا آخر أحاول مع كل صباح التعرف عليه أكثر..أضاعني بحر هذه المدينة أو أنه ضيّع مني ملامحي وغيّر نبض قلبي.
العواصف في الخارج لا ترحمني،أتراها تعاقبني ،أتراها امتداد لعواصفي الداخلية.
ولا يخرجني من دوّامتي سوى جرس الباب ،من سيأتي في مثل هذا الجّو:
- مرحبا سيد أحمد.
- مرحبا ناصر
- جئت في الوقت المناسب يا صديقي.
- طبعا صديقك لا يمكن أن يأتي إلا في الوقت المناسب.
وصول سيد أحمد في مثل هذا الوقت كان بمثابة زورق النجاة، أخيرا وجدت من أظهر أمامه ضعفي وانكساري ويأسي.
سيد أحمد كان طويل القامة ،قامته كانت أحد أسباب هيبته التي يتميز بها ،رغم أنّنا أحيانا كنّا نسخر منه و ننكت ونضحك طويلا من أصحاب القامات الطويلة..لكن امتداد روحه الطيبة كان أطول و أعمق، هذا ما جعله الأقرب الى نفسي .
سيد أحمد بشخصيته المتزنة يأسرك و يجعلك تقفز من أعلى سور آلامك الى فضاء هدوئه كما الريشة دون خدوش أو كسور..
جلس سيد أحمد متأملا فوضى المكان ،حاولت أن أرتب بعض الأوراق وبعض الأشياء ،ابتسم و هو يشير اليّ للجلوس الى جانبه.
- لا عليك سأتعوّد على هذا المنظر.